أُسدلُ وشاحَ اللَّيْلِ، وظَهَرَتْ أضواءُ النَّجومِ الخَافِتةِ في الأُفُقِ، مُصْطَحِبَةً معها دَوِيَّ الرِّياحِ الصَّاخِبةِ، فَرَّ الجَميعُ هارِبين من تِلكَ العَاصِفةِ، وانزَوَيْتُ وحدي خلفَ أَبوابِ عِيادَتِي شَارِدًا، عَالقَ الذِّهنِ عِندَها.
جُلَّ ما أتَذكرُه مِن لِقَائِنا؛ هو تَحَسُّسها المُفرِط لخُدُوشِ الزَّمانِ الغَائرةِ في رُوحِهَا، والحَدائقِ السَّودَاءِ المُكْتَظَّةِ في وَجهِها.
أيعقلُ أنْ يَسقُطَ الإنسانُ في تلكَ الحُفرَةِ السَّحيقَةِ ولا يستطيعُ الخروجَ مِنها؟ قد لا أستطيعُ في بعضِ الأحيانِ أنْ أمتلِكَ القُدرةَ الكَامِنَةَ على الاحتِمالِ، فأُسافرُ في عالمٍ أسطوريٍ داخلَ عَقلِي المَلِيءِ بِصَرخاتِ المَرضَى، ومُناجَاتِهم لإنهاءِ الصِّراعِ المُحتَدِمِ بِداخِلِهم، فتارةً ينتهي بإنهاءِ حَياتِهم، وتارةً بإيذاءِ من حَولِهم.
حَاولتُ الخُروجَ إلى العَالَمِ، ولكنْ هَيْهات، فقد وَجَدتُهَا وسَطَ ازدحامِ هذا العَالَمِ، تَقْطِبُ ذَاكَ الشَّقَ الهَائلَ في صَدرِها، اقتَرَبتُ منها ببطءٍ، لَعَلِّي أجدُ لها مَخرجًا، وكأنَّما جميعُ الأصواتِ حَولِي اختَفتْ، ولم أسمع سِوى تِلكَ المُوسِيقى الحَادة، ووَقْعِها المُخِيفِ في نَفسِي.
عِينَانِ شَاحِبَتانِ، جِسمٌ هَزِيلٌ، وسِكينٌ مُلَطَّخٌ بالدِّماءِ، يبدو
أنَّ هَذِهِ الدِّمَاءَ هِي دِماءُ الحُرِيةِ مِن الكَابُوسِ المُحِيطِ
مِنَ العَالَمِ وَما حَولَهُ، لَعَلَّه أَعادَ لهَا تَوهُجَ الكَونِ، وتِلكَ الشَّجاعِةِ؛ لإغلاقِ ذَلِكَ الشَّقِ، ولكِنْ يا عزيزتي شَرْخُ القَلبِ لا يَكفِيهِ خَيطٌ ولا إبرةٌ.
أُغلِقَ السِّتارُ عن هَذِهِ القِّصَّةِ الكَلاسِيكِيةِ كَعَادةِ مُجتَمَعٍ قَامِعٍ للإنسَانيةِ، مُبَدِدٍ للحُرِيَةِ. أَدارتُ وَجهَهَا وجَسدَها الهَزِيلَ وزَحَفت إلى أنْ وَارَاهَا الثَّرَى، آخِذَةً مَعَها طِفلةً لطَالما بَحَثَتْ عنِ الأمانِ وَسَطَ هَذا العَدَمِ.