لصحيفة آفاق حرة
_______________
الجزء الأول..
وصلتُ ـ وكان الوقت عصرا ـ ديارهم
فقاموا خِفافًا يحتفونَ بمقدمي ..
تنادوا فقالوا : جابت الريحُ منعمًا
ويَا حبّذا ريحٌ تجيء بمنعمِ ..
وجابَ هنا ليست من طافَ وطوّفَ ، بل هي من أحضرَ ، وهي لهجة فراتية ، يقال عندنا للقادم من منبج : إيش جبتلنا معك ، أي ماذا أحضرت لنا معك ، ولك هنا أن تعتبر الجملةَ كلّها فصيحةً إذا مرَّرْتَ (جبت) ذلك أن (إيْش) هي اختصار ل: أيّ شيء ، وأمّا (جبتلنا) فإنها جبتَ لنا . وإنك لو أردت إعادة (تجيء بمنعم) إلى ذات اللهجة ، لصارت : تجيب منعما ، فتصير لفظة (منعم) هنا منصوبة ، الأمر الذي يخلّ بالمنظومة اللغوية للبيت ، ومن هنا نستخلص أنّه يجب على الشاعر الحقيقي الذي يكتب بالفصحى ، أن يكون شعره أجمل وأجزل ، وأقرب للقلوب ، إذا كتب بلهجته المحلّية أو المحكيّة ، لأنّ الأمر يصبح عنده أكثر عفويّة ، وتتّسع لديه دائرة الخيارات ، بيد أنني أجد الشاعر المعتزّ باللغة العربيّة ، العاشق لها ، لا يستطيع أن يكتب بتلك اللهجة ، وكأنّه يخشى أنّه يخون تلك اللغة ، إذا كتب الشعر بغيرها ، وإن كانت سهلة المنال ، وهذا يقودنا إلى أمر غاية في الأهمّيّة ، ولكنني لن أخوض فيه هنا ..
وأعود معك إلى الفعل (جابَ) لأستشهد لك من تراثنا الفراتي ما يخفف عليك تقبّلها كما جبتها لك ، فلك مثلا أن تسمع ناظم الغزالي ، وهو يقول : قلّي يا حلو منين الله جابَكْ . ومنين هنا هي اختصار ل: من أين؟ ولقد تسأل أحدهم : أعندك كذا وكذا ؟ ويكون معدم الحال ، فيجيبك : منيلّي . وتعني : من أين لي ، ولقد جاءتك بذاك الرسم لإدغام النون الساكنة باللام ، وهذا أمر لا يخفى عليك ..
ومن شواهدها ، قول سعدون جابر : قلّي إش جابك عليّ وشْ ذكّرك بينا ، عشرين عام انقضن وانت اللي ناسينا .. ومن ذات المعنى كنت أخذت قولي :
لماذا عدتَ من بعد الغيابِ .. وكيفَ عرفتَ يا ابنَ الناس بابي
أنا بالكاد شلتُكَ من فؤادي .. وأسدلتُ الستارَ على العتابِ
مضتْ عشرون عاما ، لم تزرني .. ولم تسأل بناتِ الحي : ما بي
وقبل أن أمضي معك في شواهد (جاب) من الغناء العراقي ، وبعض الأغاني الشعبية لدينا ، سأقف عند أمرٍ ، أعلم أنّك ماتزال واقفا عنده ، وهو حول (مضت عشرون عاما) ، ذلك أنني وقفتُ ذات الوقفة ، وأنا أتأمّل المقام ، عالما أن (مضى) تفي بالغرض ، ولكنني رأيتها لا تشبع الحالة كما هي في التأنيث ، ولأنني أثق بسليقتي أكثر من ثقتي بما أعرف من قواعد نحوية ، كان لا بدّ من البحث ، فخلصتُ إلى أنني أردتُ (سنةً) بدل (عاما) ، لأن العرب يستخدمون السنةَ حين تكون أيامها ثقيلة مجدبة قاحلة ، وأمّا (العام) فإنهم يستخدمونه في خلاف ما ذكرت لك عن السنة . وعليه فإن الذي مرّ على المحبوبة من هجر حبيبها لها يعدّ بالسنينَ لا بالأعوام ، فلمّا لم يتّسع المقام العروضي للفظة (سنة) استعاض عنها الشاعر ، الذي هو أنا ، بلفظة (عاما) مع إبقاء الفعل في صيغة التأنيث ، للدلالة على ما في نفسه ، وهذا يدخل في باب ما كان يجب أن يكون ، ولم يكن . ومنه ما يأتي في النحو في باب التوهّم ، حين ينصب المتحدّث خبر (أنّ) الجائية بعد أفعال الظن ، فلقد انتبهت لكثيرين يقولون : ظننت أنك قادما إلينا . وهذا التوهّم آتٍ من أن في بال القائل أن يقول ظننتك قادما إلينا ، فتكون (قادما) مفعولا به ثانيا ، ثم تدخل (أنّ) على الخط ، فيغفل عنها ، ويظل في باله المفعولان ، ويزيد من غفلته أنّ اسم أنّ منصوب ، فيظنه المفعول الأول ، وهكذا يقع في الخطأ ، ثم ينتبه فيصلّح ..
المهم ، سلّمت على القوم تسليمَ البشاشة ، وكنت في غاية الشوق لهم ، فرحّبوا بي أيّ ترحيب ، بيد أن أبا الطيّب بدا مكفهّرا أصفرَ الوجه شاحبه ، فقلت : ما بال أبي المحسّد لا يجيب سلامنا ؟ أواشٍ تولّانا ونحن غيابُ ؟
فقال : معاذ الله يا أبا ماهر ، ولكنني أخشى أنّك اعتدت الفِراقَ ؟ فالجفاء يميت القلوب ..
فنهره الحارث بن عُباد ، وقال له : ويحك يا أبا الطيّب , ألمثل هذا يقال هذا ، أفما سمعت العرب تقول : الغائب وحجّته ؟
ثمّ التفتَ إليّ ، وقال : على الرحب والسعة يا جاسم ، واعذر حبيبك أبا الطيّب ، واستعتبه ، فإن العتب ماء المحبّة .
قلت : وهل لي غير ذلك ؟
فتبسّم في وجهي ، ثمّ التفتَ إلى طرفةَ بنِ العبد ، فغمزه ، فقام طرفةُ واقترب منه (ووشوشه) والوشوشة :الهمس ، فاندار الحارث ناحيتي ، واندار أي التفت ولكن بكلّه ، وهي من استدار ، ولكنها أوقع في النفس ، ومنها كنت قلت مرة : ماضٍ وقلبي يستدير وراءَ ، ولولا العروض لكنت قلت : يندار ، المهم اندار ، وقال لي : بصلاة محمد ، متغدّي ؟ واللا نحطّلك غدَا ، ترى الخير كثير . قلت : كثّر الله خيركم ، ولكن لا بأس بالشاي .
فقال طرفة : تم
وانطلق يصنع الشاي ..
واستمرّ الترحيب بي من الموجودين والذين يجيئون تباعا ، وأنا فرحٌ بهم جميعا ، وبينا أنا كذلك ، قال لي أبو الطيّب : أنت لست أنت ، يا جاسم .
قلت : بمَ تقول ذلك ؟
قال : في عيونك لهفة المشتاق ، وفي تصرّفاتك خلاف ذلك .
قلت : أفصح فديتك .
قال : أين الحميمية في السلام ، تلك التي كنا نراها ونلمسها في مصافحتك إيّانا ؟
قلت : كأنّك لم تسمع بكورونا ؟
قال : سمعت بمادونا ، ومارادونا ، وعلى دلعونا على دلعونا ، أمّا كورونا (فهذي مسكة إذني) والأخيرة هي عبارة يقولها المرء قاصدا أنه لم يسمع بذلك من قبل ، ثم قال : هات حدّثنا ؟
قلت : إنها قصّة طويلة ، فدعك منها ، ولكن اعلم أنه ما منعني عنكم سواها ، وما منعني عن مصافحتكم يدًا بيد غيرها ، فلقد شبعنا حجرا وهجرا ..
قال : ناشدتكَ الله أن تحكي التفاصيلا .
فلمّا رأيته أطلقَ ألف (التفاصيل) أدركت أنه يلمّح للبيت :
إنّ التفاصيلَ أحلى ما بقصّتنا .. ناشدتُكَ الله لا تنسَ التفاصيلا .
ثمّ قلت : إنّ السلام يدا بيد صار من الماضي .
قال : ويحك ، ماذا تقول ؟
قلت : هو ما تسمع ، فلقد قالوا لنا إنّ ثمّة وباء ينتقل بالعدوى ، وإنّه مميت ، وإنّه ، وإنّه ..
فما عدنا نسلّم على بعضنا إلا عن بعد ، ولا عدنا نتزاور ، ولا نتعاود ، وأمّا الصلاة في المساجد فإنها شأن آخر ، فالفُرَجُ التي كان يطلب إلينا سدّها حتى لا يبقى مكان للشيطان ، صارت تكفي لقبيلة من الشياطين ، وصار الجيران إذا رأوا جارا لهم يسعل أو يعطس ، يبلّغون عنه الجهاتِ الأمنيّةَ ، بدلا عن : يرحمكم الله ، بل صار الواحد منا إذا عطَس تلفّت يمنة ويسرةً خشيةَ أن يراه أحد ، وكأنما جاء إحدى الموبقات ، ولقد وردني أنّ امرأةً اقتادتها الشرطةُ من بيتها ، وبينا هي تنزل سلّم العمارة مع رجال الأمن ، صادفها جارها ، وقال لها : سلامات جارتنا ، خيرا إن شاء الله ؟ قالت له : دعارة ، دعارة ، لا تخف . فقال : ألف الحمد لله أنّها ليست كورونا ، قضا أهون من قضا ، يا طاهرة .
والحديث طويل طويل ، فدعونا منه ، وهلمّوا أنشدكم إحدى روائعي ..
فضحكوا جميعا ، وصاح جرير : روّعتنا بما فيه الكفاية يا رجل ، فدعنا منك ومن روائعك ، وهاتِ أنشدنا ما وعدتنا .
قلت : وما وعدتكم ؟
فقال رؤبة بن العجاج ، وكان متّكئا بعيدا ، وقد أشعل سيجارة (غازي) وأهل إدلب يسمّونها (حموي) وأما في شمال منبج فيقولون (قَجَقْ) قال : بطّل هالحركات عبّود ، فما جئت اليوم إلا لأني سمعت أنّك ستلقي قصيدة لأنس الدغيم .
قلت : ومن أنس الدغيم ؟
فوقف الفرزدق ونظر إلي ، وقال : الفُرسُ تعرفُ من أنكرتَ والعربُ ..
فضحكت ، وقلت : إنّما أمازحكم ، ولكنني أرى أن يفرغ طرفةُ من صبّ الشاي ، ويجتمعَ البقيّة .
فجلس الفرزدق ، وقال : إذا هيك (أوك)..
قلت له : شو ، صاير تحكي لغات ؟
قال : إنما لقطتها من شيكسبير .
قلت : وهل هو معكم ؟
قال : لا ، الأجانب في مكان ، ونحن في مكان ، ولكن صدفته في الاستراحة .
قلت : كان المفروض أن يأتي إلى لقائي إذن .
قال : وكيف ذلك ؟
قلت : لأنني أعتَبَر في المكان الذي أقيم فيه أجنبيا ، وكذا اليمانيّ والعراقي وسائر العرب .
قال : كيف تقول سائر العرب ، ثم تقول أجانب ؟
فقلت : ما رأيك أن نتحدّث عن الكورونا ؟
فضحك عاليا ، ثمّ قال : خلص ، خلص ، فهمت عليك ، هاتِ أنشدنا :
قد قال لي ولدي ، من قبل قارئة الفنجان : يقتلك الإيمانُ والشغَفُ
ما كانَ ضرّكَ لو لم تتّقد وطنا . . ولا نزفتَ كمن في حبّه نزَفوا
ما كان يمنعُ لو هادنتَ قاتلَهم . . ما كان يمنعُ ؟ قلتُ : العزّ والشرَفُ
فوقفوا جميعا ودوّى تصفيق حاد في المكان ، جعل البقيّة يلتحقون بمجلسنا ، ولكن الجميل بالأمر أن طرفةَ بدأ بصبّ الشاي مع بدء المتنبّي بالإنشاد ، فذهل عمّا هو فيه ، وظل يسكب في ذات الكأس ، وعيناه شاخصتان باتجاه أبي الطيّب ، حتى فرغا معا ، أبا الطيب من الأبيات ، والإبريق من الشاي . ولقد نصبت (أبا) على المعنى ..
صاح رؤبة من مكانه : ويحك ، ما هذه الرائعة ؟
ردّ عليه أبو الطيّب : خلف .
قال : أبا أميّة ؟ يريد أتعني خلفَ أبا أميّة ، المشرك الذي قتله الصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه .
فأجبته أنا : وأين خلفنا من أميّة وأبيه ..
قال : كيف تقول ذلك ؟
قلت : إنّ خلْفَ خلَفِكم مئاتِ الصناديد على الرغم من كفره وكفرهم ، أما خلفنا فقد ترك وحده في الميدان مخذولا ، ولو أن المتنبي أنشدكم القصيدة كاملة ، لوقفتم طويلا عند قوله :
لم يبقَ غيرُك في الميدان يا خلَفُ ..
فقال جرير : إذن هاتِ أنشدناها كاملة .
قلت : بل عندي لكم غيرها ، فأصيخوا السمع ..
فجاءني صوت من مكان غير بعيد يقول : أجّل ما لديك للمرّة القادمة ، وأرِنا عرضَ كتافك ، أي درمل ، أي فحّط ، وكلّها تصب فيما معناه : الله معك ..
فإلى الرحلة القادمة ، تقبّلوا تحيّات عبد المنعم الجاسم ..
وأترككم مع وردة الجزائرية ، و(بودّعك) ..