انحنى أيلول على ضريح النهرالممدد في المدينة ؛ بين شارعين متقابلين ، فسقطتُ من أهداب غيمة خجولة إلى جيب شجرة كبيرة؛ وجدت هناك قصاصات من ورق الزمن ؛مكتوبة فيها أسماء العشاق الذين قضوا في مذابح الفراق الأخيرة ، وبعضَ الرسوم الفحمية لأطفال نُحروا قبل أن يخرجوا من أحلام اليقظة المنيرة إلى ظلام الواقع !
ورأيت أيضاً صوراً لأهلي وأبناء الحي والجيران ، ولِخيامٍ كثيرة تطفو وتغرق على حدود القارات..
كان الشارع الأمامي محشوا في فوهة مدفع ، وأما الخلفي فكان معلقاً على جنزير دبّابة ؛ نظرت إلى النهر المصبوغ احمرارا بدهشة وخوف ، لمحتُ انعكاساً لسطح البناء المقابل للشجرة .. رفعت رأسي ونظرت ؛ كانت ليلى قد أعدت قهوتها، وجلسَتْ بها متأملةً جارتها بثينة وهي تنفض بساطها الرث ، كان الجدار الفاصل بينهما قصيرا؛ نادتْها كي تشاركها رشفَة ؛تركَتْ بثينة البساط ، واقتربتْ.. وشيئا فشيئا عَلَتْ ضحكاتهما وهما ترويان بعضا من قصصهما الغرامية ومغامراتهما مع الحبيبين..
اتكأتُ على غصنٍ مكسوربجانبي ويدي على خدي، فقد استمتعتُ كثيرا بما سمعت ، ورحت أتخيل لو أن تلك القصص قد حدثت معي ؛ هل سأكون وقتها على مايرام؟!
آه لو كنتُ مكان ليلى ، ولو أن قيساً رتّل في عينيّ قوله:
تذكرت ليلى والسنين الخواليا…
حينها لن تهمني الحروب المشتعلة في أطراف المدن، ولن أبكي على أطلالِ كُتبي التي احترقت تحت القصف ، وسأغفو على أمل أن يجمع الله الشتيتين …. لكن.. بعض الظنون متعبة ، ومربكة ، ومؤسفة .. فكيف ستلتقي الأطراف بالجسد بعدما بترتها القذائف؟!
نظرتُ إلى بثينة المبتسمة، ثم سرحتُ في الأفق البعيد، كانت طيور النورس منتوفة الريش ، تلاحقها غربان ملطخة بالحقد .. هل حلّ بالنوارس ماكان يخافه جميل على بثينة من خدش الماء للجلود الرقيقة؟!
لكني سرعان ما تذكرت أن أنابيب الماء في المدينة قد فجرتها القنابل ، وأن الصنابير قد أتلفها الصدأ..
فجأة.. عمّ المكان صوتٌ أجش ، يصرخ ويقول:
بثينة ، انزلي قبل أن أصعد إليكِ؛ ركضت بثينة مرتبكة ونزلت الأدراج ، وفور ذلك سمعت بكاءها وهو ينهال عليها بالضرب، ويقول: ألا تعلمين أن زوجها من شارع المدفع ، ذاك الشارع الذي يصوب نحونا بنادقه ليل نهار؟!
أظنه شدها من شعرها وسحبها إلى غرفة مغلقة.. فلم أعد أسمع صوتهما…
نزلتْ دمعة سخية من عين ليلى في تلك اللحظات ، أظنها حزنت على صديقتها وجارتها التي تحبها، أو أنها تذكرت ما يفعله شارع الدبابة بأبناء شارع المدفع!!!
مرت بضع دقائق صامتة ، وقفت ليلى وهي تحمل صينية القهوة ، مشت بخطوات ثقيلة ، فإذا برجل ضخم المنكبين ، عاقد الحاجبين يصعد إليها ويقول لها بصوته الخشن:
– هل تحدثتِ اليوم مع بثينة ؟!
أشارت ليلى برأسها ، وكان قلبها يتألم …..لا..
بعد الذي رأيت وسمعت ، في وطن لم يعد فيه جميل ولا قيس ،أمسكت قصاصات الأوراق التي أمامي وكان لابد من وجود أسماء جديدة بين القوائم التي دوّنها الزمن، أخرجت قلمي وكتبت :
“ليلى ؛ بثينة ؛ وأنا”..
عبير ظاظا / دمشق/ سوريا
تحيتي القلبية لكم ، أشكركم .. وكم أتمنى أن تكون الحرب أضغاثاً
ستمر الايام السوداء .. وسنتذكرها جميعا ونلعن سويا من اشعل نارها . وسينبت الياسمين ويفوح بعطره على الدنيا من جديد