باريس ـ حميد عقبي: يطرح المخرج الأرجنتيني سانتيغو ميتري، في فيلم «باولينا» العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية ليمزجها في دراما، بطلتها الشابة باولينا (دولوريس فونزي) التي ترفض دعم أبيها القاضي وصاحب السلطة. لا تريد أن ترث المجد والراحة والوظيفة المريحة، تتجه إلى الواقع بعد تخرجها من الجامعة، تخوض تجربة مختلفة بتدريس السياسة في مدرسة في قرية فقيرة قرب غابات الأخشاب، تجد مشاكل في التفاهم مع الطلبة، ثم تكون الكارثة بعد تعرضها للاغتصاب، تحاول معالجة جروحها النفسية، ترفض الانتقام، وتصر على الاستمرار في طريقها.
حاول المخرج القول إن الأرجنتين بلد غني، لكن الفقر يتضخم ويتحول إلى غول مرعب ليلد الجهل والعنف والتعاسة، سانتياغو ميتري لا يفرض وجهة نظر سياسية متطرفة أو معقدة، ولا يملي علينا شيئا بشكل مباشر، ومع ذلك ينجح فيما يريد ويميل إلى بناء الصور التي لها معان متعددة، يخلق لشخصياته أماكن ومناخات خاصة، لنحسّ بهذه الشخصيات في هذا السياق المؤلم والعنيف، كما تثير تساؤلات، لا يلتزم المخرج بالرد عليها، هنا نجد حالة ارتداد كشخص يصرخ فيرجع إليه الصدى طوال الوقت.
يبدأ الفيلم مع مناقشة بين الفتاة ووالدها الذي يجد صعوبة في فهمها ويفشل في جعلها تتراجع عن الذهاب إلى ضواحي بوساداس، وهي بلدة صغيرة في الأرجنتين وهي من المناطق المحرومة من الحياة والحب والأحلام، الأحياء الفقيرة المجاورة للغابة ليس فيها بهجة ولا ترفيه والناس تقطن في أكواخ متهالكة أشبه بحظائر الخنازير المهملة، لا توجد مظاهر الحداثة والتطور إلا في مصنع الأخشاب الذي يسلب الحياة من الطبيعة والإنسان، هذه المنطقة في نظر الوالد خطرة والذهاب إليها أشبه بالجنون، الفقر يولد العنف والبؤس وشظايا مأساة هذا الواقع يصيب بولينا لتصبح جزءا منه.
عندما يبتسم لهذه الفتاة الحظ فلديها منزل والدها أشبه بالقصر ولديها الرفيق وكل شيء تحلم به أي فتاة لتصبح محامية مشهورة أو قاضية، لكن بولينا تبتعد وتذهب إلى الزاوية النائية والمظلمة في الأرجنتين، تصل عبر الطرق الترابية غير الممهدة، للصورة دلالات شاعرية بليغة، حلمها تعليم الناس معنى كلمة الحق والمواطنة والعدالة والديمقراطية، وأن الحكومة موظفة لخدمتهم، يبدو حديثها غريبا ولا يصدق الطلبة كلامها ويتركون دروسها، بولينا تظهر كشخصية استثنائية تؤمن بمبادئ تبدو أنها أصبحت مستحيلة أو خيالية، حتى هؤلاء من تعمل لتنتشلهم من الظلم، يكون ردة فعلهم ظلمها وهتك حرمة جسدها، تتحول إلى ضحية ولم يتجه الفيلم لجعل الضحية تبحث عن المعتدي لتنتقم منه، كانت تود فهم ما حدث، وأن يرى الجاني وجه ضحيته، تعلم أنها تحمل في أحشائها جنينا قد يكون من هذا المجرم وتقرر أن تحتفظ بالجنين، تلخص وجهة نظرها بالقول إن هذا الجنين جاء من الواقع وهكذا تخسر رفيقها وتنسى حبها، كون الفوارق اتسعت بينهما فهي تنتمي إلى الفئة المظلومة والمحطمة وهو ينتمي إلى طبقة اجتماعية حية ومترفة.
هذه القصة يعرضها لنا المخرج ويبدي إعجابا بهذه الشخصية اليسارية وهي نموذج لشباب يصفهم البعض بالحمق، تتحول إلى ضحية النظام فهو الوغد الحقيقي، من صنع القسوة والضياع في نفوس الشباب وجعل الفتيات يمارسن الجنس مع الأجانب من أجل المال لشراء فتافيت الحياة.
نرى العنف من ضباط الشرطة وتسريح الكلاب المسعورة لنزع اعترافات الشباب، مما يميز الفيلم أيضا قوة الكلمات المعبرة التي تقرع جرس الروح وتتسلل إلى أعماقنا، تحكي بولينا لطبيبتها النفسية ما حدث ويحدث بداخلها وتضعنا كشهود كي ندين الواقع ومن تسبب في خلق هذا الرعب العام.
حادثة الاغتصاب التحول الخطير وربما كان البعض ينتظر تصاعدا دراميا أو نكسة تحطم الشخصية ليعرض الفيلم بقايا هذا الحطام، لكن من هنا يبدأ الغموض، بولينا تنكر معرفتها بهذه العصابة في مركز الشرطة.
لذلك، فإن المرء يتساءل عن هدفها ودوافعها ما تسعى إليه، الفيلم قد يثير غضب البعض بسبب غياب الردود من هذه المرأة الخاصة. نلاحظ أن العلاقات تتعقد بين الشخصيات المتقاربة مثلا بين الأب والبنت، بين البنت ورفيقها، العلاقة بين البنت والأم باردة، نلمس التوهج بين بولينا وصديقتها (المعلمة في المدرسة) فهل يعني أن تضحية بولينا لم تذهب هدرا وهي ليست مقطوعة أو تائهة، ونجحت في خلق تواصل مع طلبتها ويستمر الجدل في حصة الدرس ونسمع تعابير طفولية بسيطة وعميقة عن الحرية وحقوق الإنسان. محاربة العنف في المجتمعات المحرومة لا يمكن تحقيقه دون تقوية المؤسسات التربوية التعليمية.
«بولينا» يرصد حالة الصدمة عندما يساء فهمنا تماما من قبل المحيطين بنا ويجمع أفكارا مختلفة ليست محصورة في أفكار شخصية بولينا فقط، بل لكل الشخصيات وهذه الأفكار قد تكون خاطئة أو متطرفة أو متعالية.
تميز الفيلم بسرد غير منتظم ومتشعب يتلاعب بالزمن يقدمه ثم يؤخره ومشاهد كثيرة تعرض (فلاش باك)، تأتي من عمق بولينا وليس مجرد ذكريات مؤسفة، تحول الفيلم إلى محيط يجمع وجهات نظر مختلفة تتصادم فيما بينها، هذه الأفكار تقال أيضا من خلال سلوكيات الشخصيات فلم يكن الفيلم منصة خطابة، كما أضافت الممثلة الشابة دولوريس فونزي إلى الفيلم روحا عطرة وهذا الفيلم يؤكد موهبتها الفنية المبدعة، لعل هذه العناصر منحته الفرصة للحصول على الجائزة الكبرى لأسبوع النقاد في مهرجان كان عام 2015.
عن : القدس العربي