لأوّل مرة سيجرب عصامُ حظه مع الغش حينما وجد نفسه في مواجهة امتحان نهائيِّ لم يكن مستعداً له.. ماذا سيفعل إزاء هذا الموقف العصيب وهو ذلك الطالب المتفوق طوال حياته! لا ريب ستداهمه الهواجس، كأنه خارج لتوه من القبر كي يواجه مصيره المحتوم ، قال في سره:
فإما الفشل أو فضيحة مدوية بين الطلاب لو اكتشف أمري”.
يتخيل عصام نفسه وهو في غمرة القلق الشديد كأنه ضال يسير حذراً على الصراط المستقيم المشدود فوق نيران تتوهج.. فتتراءى لعينيه التائهتين من بعيد جنة التفوق والنجاح؛ لكنها كانت تبتعد عن ناظريه حتى يلتهمها الخوف! وها هو يتخيل مصيره كأشرعة سفينة تائهة في عرض البحر.
السكون يسود قاعة الامتحان.. أنفاس الطلاب مكتومة كأنما على رؤوسهم الطير.. سوى وقع خطوات المراقب وهي تطوف بين الأدراج إذْ بدت وكأنها تطرق رأس عصام وعيناه تتقلبان في كل اتجاه، فيما أذناه مشنفتان باتجاه وقع الخطوات وهي تطرق الأرض.
وبغتة! شعر عصام وهو ينتزع لفافة الورق من ثنية كمه بأنه سيخسر كل شيء في لحظة جنون.. يتهامس في أعماقه:
” ليس هذا ما اعتدت عليه أيها القبطان الماهر عصام! أمخر بسفينتك عباب ذاكرتك العميقة قبل أن يلتهم الوجلُ بقاياها المنثورة في وجه الزوابع والقلق”
لقد جنى عصام على نفسه حين أهملها.. داهمته الأفكار من جديد.. الوقت ضيق حتى كادت الساعة تنفجر في وجهه وهو يختلس النظر إليها كل حين.. فيتذكر ذلك الموقف الذي أدّى به إلى هذه الحال.. ويضغط على رأسه المصدوح بيديه وهو يستعيد تلك اللحظات القاسية، حينما ألقى كتابه على الأرض كي يختطف من حبيبته التي هجرته نظرة وداع، قبل أن تذوب في الغياب كقطرة ندى تسيل على جبين الانتظار، ربما إلى الأبد.. لم يكترث حينئذْ بامتحانه الدراسي المنتظر في اليوم اللاحق، بينما هو يتجاوز الفناء إلى بوابة البيت الخارجية، راكضاً صوب الميناء كطفل غرير فقد أمه، يتخيلها غائمة العينين.. مرتعدة الفرائص من هول الفراق.. قلبها غدا حطاماً وروحها حبيسة الفراق.. كأنه تناسى ما قالته يائسة ذات يوم، حين أشاحت بوجهها المربد عن وجهه المكفهر الذي تيبست في عروقه الوعود بالمطر:
” كنت وغداً يا عصام حين تخليت عني.. تركتني ضحية صفقة جائرة أبرمتها زوجة أبي مع مهاجر عجوز.. تجاهلت وأنت متسمر مكانك صفق الأبواب المتهالكة ورائي! فكيف تسمح لنفسك بأن تراقب الضحية من وراء نافذة الوهم كلص سرق قلبها.. لماذا تترقب خطواتي وهي تأخذني إلى مصير تفوح منه رائحة عفنة.. كأنها جيفة تلتهم بقاياها العقبان.. لماذا تلاحقني ما دمت تنكس راياتك مستسلما لأمزجة الرياح.. أنت وغد وجبان فاخرج من حياتي إلى الأبد”.
كانت حشايا عصام تردد آخر حوار دار بينهما.. وخاصة أنها ابتسمت ساخرة حين أجابها صاغراً:
” إنها ظروفي!! دراستي.. مستقبلنا!! ها أنت تتركينني في نفق الانتظار ملوع القلب، بينما تذهبين إلى النبع المظلل بالنخيل مع رجل طاعن في السن لمجرد أنه غني!! من الذي جنى على الآخر! كان عليك أن تصبري عامين آخرين حتى يتم المرام فأطلب يدك من تلك العقربة، زوجة أبيك، فقط أصغي إلى خطواتي وأنت تتقلبين على فراش الانتظار بلهفة.. سيسرك سماع صوت أبي وهو يطلبك لي.. يا حبيبتي! أنا مقبل على آخر امتحان كي أحقق نتيجة الامتياز.. هي مسألة وقت فحسب “.
فردت عليه بقسوة:
“الشِّعْرُ والزواجُ لا يتفقان.. كن واقعياً واتخذ موقفك أو اتركني أمضي بسلام”.
ثم استعادت المعشوقة دموعها التي طفرت من عينيها.. وها هي جدائلها تلتف حول ذراع زوجها الذي انتزعها من قلب عصام العاجز.. كأن حالها يقول:
“أنا امتحانك الحقيقي أيها التافه المراوغ! وقد رسبت فيه”.
وفي غمرة كل ذلك عاد عصام إلى البيت مهزوماً.. مسلوب الإرادة.. فلم يكترث، وهو يتجاوز الطاولة التي اعتاد الدراسة عليها، بالكتاب الذي ألقاه على الأرض أثناء خروجه، وقد أعيد إلى مكانه بواسطة والدته قبل أن تغادر البيت لاحتساء القهوة عند جارتها.. واستلبه القلق حتى تصدع رأسه.. تناول حبة مسكن لألم الرأس فتراخى جسده وهاجمه النوم لتستبدَّ به الكوابيس.. فيحلم في منامة بحمامة جريحة كانت تئن.. محبوسة في قفص خُضِّبَتْ قضبانُه بالدماء.. تحملها يدٌ غريبة، لا مبالية بوجعها، وقد تزينت أناملها بفصوص من الأحجار الكريمة الملونة. وأثناء نومه لم يشعر أيضاً بيد والدته الحانية وهي تسحب الغطاء حتى رأسه متمتمةً بحنو:
” نم يا عصام.. موفق بإذن الله يا ولدي” .
وفي الصباح الباكر أدرك عصام حجم المصيبة التي حلت به.. فقد داهمه الوقت دون أن يستعد جيداً للامتحان.. أربكه الموقف.. وتبخرت من رأسه كل تمارين الطاقة الإيجابية التي كانت تساعده على تهجين الذاكرة كلما تعرضت لعاصفة كهذه.. بدأ ينسخ ما يستطيع من معلومات على قصاصات صغيرة من الورق كطالب فاشل.. وها هو يتصرف مثل اللصوص.
كان الأستاذ يتجول بين المقاعد وعيناه تراقبان الطلاب بانتباه.. أما عصام فكان يظن بأنه خارج دائرة المجهر كونه من المتفوقين.. وحسب بأنه سيعالج الموقف بعيداً عن رصد المراقب.. تصبب جبينه عرقاً.. خجل من نفسه.. بحث عن ذاته في أعماق عقله الباطن.. جاءه هاتف من بعيد.. إنه صوت حبيبته.. شعر بهمساتها وهي تنبض بالرجاء.. تعززت في أعماقه طاقة إيجابية كأنها عبق زهرة النور:
” يا حبيبي لا أريدك وغداً حقيقياً.. كل شتائمي الموجهة إليك خرجت من قلب مكسور.. لا تأبه بي.. فقط لا تكن صغيراً أمام نفسك.. هدئ من روعك.. ذاكرتك منجم عميق”.
وها هي تلك الذاكرة تتعافى فتشرئب البراعم فيها.. نَقَّبَ فيها عن البيانات اللازمة بدقة.. الأجوبة أخذت تزهر على الورقة البيضاء.. يُعَجِّنُ عصام وريقات الغش بيده ويلقيها عبر النافذة.. فتمطر ذاكرته بسخاء.. حتى تحولت ورقة الامتحان إلى حقل سنابل.
قال في نفسه:
“باقي من الوقت ربع ساعة”!
سيراجع الإجابات كدأبه.. قلبُهُ يدقُّ.. الساعة أوشكت على الانفجار من زخم الوقت.
وفجأة!! ربتت يد المعلم الحانية على كتفه.. همس في أذنه:
“أحسنت صنعاً أنك ألقيت الشر من النافذة”.
أربكه الأمر.. تصبب جبينه المحمر عرقاً.. لكنه استعاد رباطة جأشه، بلع ريقه.. قال متلعثماً:
– يا أستاذ أقسم لك!..
– لا بأس.. أنت طالب يثير الإعجاب لأنك أحسنت التصرف.
وتخيل عصام في غمرة هذا الموقف المحرج ابتسامة حبيبته كأنها تحييه على شجاعته!! حتى أيقظه صوت المراقب من غيبوبة التلاقي:
“انتهى الوقت.. سلموا أوراقكم”..
فاستجاب عصام مشرئب الرأس، ثم غادر القاعة كأنه ذاهب إلى موسم الحصاد وقلبه يغني.