رجعت إليها/بقلم:عبد السلام كشتير (المغرب).

لم أكن أقدر فداحة الخصاص الذي تركه غيابها على نفسيتي طيلة كل المدة التي توقف فيها تواصلنا المنقطع النظير، ولقاءاتنا التي كنا نشعل فيها نار الجوى ونفرغ ما في طويتنا من بهاء العشق وحلاوته. أخذني قلبي إلى هناك، وربما اشتياقي لها، رجعت دون أن أعي أنني استسلمت لخطواتي وأنا أقطع تلك المسافة التي طالما كنت أسير فيها معبأ بأحاسيس ومشاعر لا حصر لها من العشق والحب والود. كنت أخزن لها في دواخلي بحورا من الأحاسيس الوردية لأفرغها أحيانا دفعة واحدة حين كنا نلتقي في موعدنا بمقهانا المفضل، علني أعبر لها عما أعيشه من شوق بعيدا عنها.
على طول المسافة إلى المقهى لم أكن أهتم بمن حولي من الناس والأشياء. خطوت عشرات المئات من الخطوات وعقلي مليء بها بحديثها وهمسها وشقاوتها وكل شيء عنها. لازالت المقهى وخاصة الركن الذي كان يحضننا يعبق بعطرها وبرائحة سجارتها، بل لازال صدى صوتها يتردد هناك، أوهكذا ارتأى قلبي. المقهى التي ٱوتنا منذ أول لقاء حتى ذلك اليوم المشؤوم الذي قضيت سويعاته وأنا أنتظر السراب، أنتظر أن تهل علي إشراقة محياها ورسم ابتسامتها وخفة حركتها.. لكن لم تكن في الموعد. لم أتمكن وقتها من التحدث معها، فهاتفها ظل لفترات ممتدة خارج التغطية. كنت قد طلبت مشروبي المفضل، لكن بقي أمامي يشهد على أساي وعذابي ساعات طويلة كأنها الدهر. رجعت بخفي حنين!
لا أنكر بعد كل هذا الزمن الذي جرت فيه مياه كثيرة تحت جسر علاقتنا، أنها تمكنت من قلبي بكل صراحة واستطاعت أن تفرض علي حضورها وتواجدها في حياتي كفرحة العيد، أو كماء زلال أو كنسيم الصباح المعطر بأزكى ما تهبه الزهور والورود للكون وللكائنات. لم تكن أنثى عادية، بل كانت مختلفة عنهن جميعا.
أسترجع، وأنا أراقب تكسر الأمواج على الشاطئ الرملي، كل تلك الرسائل التي كنت أتلقاها منها على مدار الساعة، المخضبة بالدفء والجمال والأنوثة….
أجل لا أنكر أن أسلوبها كان متميزا سلسا عميقا جعلني أنجذب إليه عن طواعية دون أن أستحضر تأويله أو انعكاساته وتأثيراته في المستقل. كنت أقبل كل شيء! – هل يا ترى كانت صادقة في كل ما كانت تكتب؟
أم أنني لم أستبن حقيقة ما كانت تتضمنه رسائلها الكثيرة من ألغاز؟
هل كانت تخفي عني ماحصل الٱن دون أن أقدر على فك رموز كلماتها وقتها، وما كانت تواريه من مفاجٱت بين سطور رسائلها؟
أحضر لي النادل الفنجان الثالث وهو يعلق على طلبي..
– “ماشي بزاف ثلاثة قهيوات”؟ ثم يتبع ملاحظته بابتسامة مصطنعة عزاء لحالي وما انتهيت إليه، بعدما كان يأتي إلى طاولتنا بمشروباتنا معززة بما نطلبه من حلويات وما تهئ المقهى من تراويق. صار اليوم ينقل إلي السوداء العنيدة التي تمكنت من عقلي وذوقي. قرأت في ملامحه أفكاره الافتراضية وهو يصف حالي. “إنه واقع صعب هذا الذي أنت عليه الٱن. وحيدا في ركنك تلتهم فناجي القهوة دون أن تعي خطورة فعلك. أنت الذي همت بها زمنا ليس باليسير”.
لم أبد اهتماما بأقوال النادل الافتراضية ولا بمن حولي. أجد ملجئي وصبري على معاناتي في إطلاق ناظري إلى أبعد ما قد تصل إليه عيناي على البساط الأزرق، ثم أعود للنظر إلى المصطافين وهم يرحلون تباعا عن الشاطئ الصغير الذي تطل عليه سقيفة المقهى حيت أجلس، والشمس تلملم دفءها منسحبة إلى مستقرها.
كل ما حدث لم يثنيني عن تذكرها. فقد بقيت أتلمس ذكراها أداوي به جرح فقدانها، وتوقف سيل التواصل الذي ربط بيننا في أجمل لحظات ذروة العشق التي قد يبلغها محبان. لم أتوقف ولم أتراجع بالرغم من إحساسي المتأخر بأن عمر علاقتنا قد استوفى حقيقته، وأن الفراق ٱت لا محالة. لمست ذلك في إدمانها سجارتها المفضلة والبقاء معي أكثر من اللازم. فبالرغم من أن مكوثها الذي زاد عن حده شيء أحببته كثيرا، غير أن بريق عيناها كان يوحي لي بأشياء مبهمة، عصية على الفهم، كليل مدلهم بلا إشراقة فجر. صارت قليلة الكلام، لا تحبذ أخذ الصور معي ولا تأبه بها إلا لماما، بحجة أن لدينا الكثير من المشاهد والتي تكرر نفسها على الدوام.
– أليست هذه إشارات تعبر عن قرب النهاية؟
لم أكن أبالي بما يجري، بل اعتبرت الأمر عاديا فمضيت معها حتى آخر نفس من علاقتنا..
الٱن بعد كل هذا التذكير الذي أمارسه دوما كرياضة ذهنية لا محيد عنها أمام الفراغ العاطفي الذي أعيشه، وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه. ألم يعبر النادل عن سوء حالي ولو بكلمات لطيفة؟
ٱن الأوان لأواجه الواقع المر الذي أعيشه الٱن والإقرار بأنها اختفت وإلى الأبد، وغابت عن كل مشاهد معيشي اليومي وكأنها لم تكن في يوم من الأيام بجانبي وبقربي وأمام عيني، أكلمها وتكلمني ونتواصل بكل جنون. أقر اليوم، وأنا أهيم في سجل ذكرياتنا، أن أحلامي تبددت وتلاشت معها كل ما كنت أكنه لها من عواطف دافئة ومودة صادقة وحب بلا ضفاف…
ياإلهي أين هي الٱن؟ وهل تفكر في بنفس الحرقة والاشتياق الذي أعاني منهما؟
رغم كل هذه المعاناة التي تؤرقني وتثقل كاهلي والثقة الوارفة التي منحتها لعلاقتنا، استنتجت في الأخير أنه علي أن أكابد جاهدا بالصبر والتحمل ثقل معاناتي وانعكاساتها المؤثرة، وأن أطوي وللأبد كتاب الحب الذي كتبناه معا، ونمقنا صفحاته بما لذ وطاب من المشاعر والمشاهد الأنيقة التي انخدعت بها ردها من الزمن.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!