توقف تفكيره أمام منظر الحقيبة الجلدية الصغيرة بجانب السيدة المنشغلة بهاتفها المحمول تقرأ وتكتب وترسل.
خطف الحقيبة بحركة خفيفة وسريعة، وألقى بها في كيس اعتاد أن يحمله معه تحسبا لفرصة مثل هذه. ركض وحين لم يشعر أن أحدا انتبه له أو لاحقه خفف من جريه وسار سيرا طبيعيا.
انشغل تفكيره في محتويات الحقيبة، وهل تستحق هذه المجازفة؟
– سرقة في وضح النهار؟..
– فلتكن.. ما الذي يمنع اللص من السرقة في وضح النهار متى ما أتيحت له الفرصة؟ ألم يقولوا المال السائب يعلم السرقة؟ ألم تكن الحقيبة من المال السائب؟؟
ماذا لو وجد بها مجوهرات؟ هل من السهل أن يبيعها دون أن يُكتشف؟ ماذا لو كان بالحقيبة مبلغ مالي محترم؟ هل سيتوقف عن السرقة ويبحث عن عمل شريف؟
يود أن يتوقف في أحد المقاهي أو الشوارع الصغيرة الهادئة ليتفقد غنيمته، لكنه آثر أن يتحلى بالصبر، ويؤجل ذلك إلى حين وصوله للبيت..
– حرامي.. امسكوا الحرامي!..
الصوت يدوي في أذنيه.. لا يدري أهو صوت حقيقي ينادي وراءه؟ أهو المقصود؟ أم هو صوت يدوي في أعماقه نابع من خيالاته؟.. لكنه دون أن يشعر مد ساقيه للريح وأخذ يركض.. وجد الحافلة أمامه توشك أن تغلق أبوابها.. قفز إليها وهو لا يدري إلى أين هي متجهة إلا أنه واثق أنها ستبعده عن مسرح الجريمة. من خلال الزجاج الشفاف للحافلة رأى شرطيين يقتادان لصا..
– ما أكثر اللصوص في هذا البلد! حدث نفسه.. ترى ماذا سرق هذا اللص؟ وأيهما أولى بالإمساك؟
رفع عينيه إلى خارطة الطريق المرسومة بالقرب من سقف الحافلة.. اكتشف لحسن حظه أن الحافلة تتجه لحيِّه.. لكنها أخذت تزدحم.. بعد محطتين اضطر لترك مقعده لسيدة طاعنة في السن.
– الواجب يقتضي ذلك.. إنه مهذب وذو خلق عال. هل يجب على الحرامي أن يكون غير محترم؟
– المحترم لا يسرق.
– لعنة الله على الشيطان.
– الشيطان فقط؟
– والنفس الأمارة بالسوء!
نعم الشيطان والنفس، أما هو فبريء!..
وقف مع الواقفين.. وصل إلى محطته فنزل من الحافلة، وأسرع في طريقه إلى بيته.
يالخيبته! أين كيسه الذي وضع فيه الحقيبة التي اختطفها؟.. لقد نسيه في الحافلة.. ربما كان من نصيب لص آخر، فما أكثر اللصوص في هذا البلد!. الحافلة مكان ملائم للصوص لكنه غير آمن، فالناس كلهم محتاطون؛ علاوة على مراقبتها بواسطة آلات التصوير. نعم حتى اللص إذا غفل عن ممتلكاته نهبت..
– لو كنت أعلم أنها ستذهب لغيري لتركتها لصاحبتها فهي أولى بها.. مسكينة لا شك أنها تولول الآن في المخفر!..
لم يكن في استطاعة صاحبة الحقيبة – فضلا عن الدموع والندم واتهام النفس بالغفلة – إلا أن تذهب فورا إلى مخفر الشرطة وتسجل محضرا.
في مساء اليوم نفسه قبل أن تخلد للنوم تلقت اتصالا على هاتفها المحمول من رقم مميز.. لا بد أن تكون الشرطة..
– ألو .. معك إدارة حافلات المدينة.. لدينا حقيبة يبدو أنها لك. وجدنا رقم هاتفك مدونا على أوراق مشترياتك بداخلها. في انتظارك. متى ستأتين؟
– هل أستطيع أن آتي الآن؟
– نعم يمكنك ذلك.
– إني أستخدم سيارتي الخاصة.. نادرا ما أركب الحافلة.. كيف وجدتموها في الحا..؟
أوه.. موظف متسرع.. أقفلَ الخط قبل سماع كلامي.
في إدارة حافلات المدينة أملت على الموظف المسؤول محتويات حقيبتها ماركة (سلفاتور): خاتم وإسوارتان عيار 24 قيراط ذهب.. هاتف محمول قديم.. طقم مكياج (سيفورا).. قارورة عطر نسائي (سانتال رويال).. بطاقة ائتمانية.. مبلغ مالي بسيط..
قال لها الموظف وهو يسلمها الحقيبة: انتبهي لأمتعتك يا سيدتي حين تركبين الحافلة. تفقَّديها قبل أن تنزلي.. سائقو حافلاتنا كلهم أمينون، يأتون لنا بما ينساه الركاب عادة، لكن ماذا لو فطن أحد اللصوص لما قد ينساه الركاب!
شكرا لك يا عزيزي وللسائق الأمين.. لكنني لم أركب الحا..
لم يسمع الموظف الجملة الأخيرة لأنه انصرف للحديث مع سيدة أخرى أخذت تسرد عليه مفقوداتها!
***
نشرت في المجلة العربية العدد 527 سبتمبر 2020