رفعت رأسها المثقّل بالآلام قليلا وقد نبّهها ضجيج الطّلاب المتدافعين مثل كلّ صباح إلى المدرّجِ. ومثل كلّ صباحاتها الرّوتينيّة، تجلس وحيدةً في آخر المدرّج تترشّف قهوتها وتُوقظ ذاكرتها ببعض الوريقات البيضاء الـمُشوّهة بحروف عوجاء تدّعي أنّها خلاصة ما يُقدّم خلال المحاضرات اليوميّة. ومثل كلّ الصّباحات، تُـهيّئ حواسّها لالتقاط الأخبار الجديدة من أفواه المثرثرين ممّن يدرسون معها. هي لا تدري كيف يستطيعون طرد الصّمت من القاعة الكبيرة ولا كيف تُفتح شهيّتهم كلّ صباح على الكلام الكثير، ولا كيف يستطيعون فَهْمَ سبب استئناسها بوحدتها طوال الوقت.
في أوّل سنة جامعيّة لها، استغربوا انطواءها وسكونها الدّائمين لكنّهم بعد فترة تعوّدوا على سلوكها وتعوّدوا أن يتجاهلوا إلقاء التّحيّة الصبّاحيّة عليها وكأنّها جزء لا يتجزّأ من أثاث المدرّج.
*****
لا أعلم لمَ تستعصي ذاكرتي النّهوض هذا الصّباح. أُحسُّ بالفراغ يملؤها كما يملأ ذاتي. من عادة هذا الجسد استباق ضوء الصّباح للبدء في ممارسة طقوسه اليوميّة خاصّة منها تجهيز مائدة الإفطار الصّباحيّة على شرف هذه الذّاكرة الكسولة. قهوةٌ سوداءُ ودروسٌ للمراجعة. نفس الطّبق كلّ صباح منذ سنوات بالرّغم من المعاناة الصّباحيّة المتكرّرةِ بين وسائل النّقل للجسد المكابد. نفس التّعب والمشقّة، لكنّه لا يتذمّر في سبيل إسعاد الذّاكرة التّي تنكّرت اليوم لمهامها المعتادة.
لا أعلم لمَ أرى من حولي الأشياء خامدةَ الألوانِ. يحيط بي السّواد والبياض… ولا شيء غيرهما. ذاكرة معطّلة ترفض رغبتي في إضافة الألوان إليها. تتمنّع وتتمرّد وتُعارض رغبتي الملحّة في إضافة بعض الحياة على هذا المدرّج البارد. صرتُ ألتحفُ الصّمتَ، وأغوص في سكون في هوّة عميقة من الغرابةِ حتّى صار صوت الزّملاء مشوّشًا، ضعيفا ولا تصلني سوى بقايا موجاتهم ضائعةِ الهويّة. وهذه الأحرف على الورقات، لمَ يخيّل إليّ وكأنّي أراها لأوّل مرّة؟ “ألستِ نابعة من قلمي؟” الذّاكرة لازالت خامدةً ولا تَتذكّر إن كنتُ أنا من دوّنتُ هذه الأحرف أم غيري.
أظنّ أنّها أصيبت بذاك الدّاء المنتشر في كامل أنحاء البلاد، وأنّ وقت عملها الإداريّ لم يحن بعد.
*****
واصل بقيّة الطّلاب الالتحاق بمقاعدهم والتّهيؤ للمحاضرة الصّباحيّة فكنتَ ترى بعض الوجوه لا تزال تداعبها آثار النّوم العزيز على القلوب وبعض الوجوه الأخرى تتأفّف من الدّراسة والمدرّسين والوزارة. هم يعلمون أنّهم ليسوا مجبرين على الحضور، لكنّهم على يقين أنّ الإغفاءة المسروقة من الدّرس أفضل لهم من صقيع قاعة المقهى الضيّقة وأنّ رائحة عطور زميلاتهم أشهى من رائحة القهوة المحروقة في المقهى. وهم أيضا يعلمون أنّ بحضورهم لن يستفيدوا بالشّيء الكثير وأنّ مشاريع تخرّجهم لهذه السّنة ستكون طعاما دسما للحاويات وأنّ أسماءهم لن تكون سوى أحرف في سجلّ الوزارة لكنّهم بحضورهم حاملين وجوههم النّاعسة والواجمة سيمنعون من سخط المدرّس عليهم يوم الامتحان عندما يفاجئهم بزيارته غير المرغوب فيها، ويعلمون أنّ أغلبهم سيُهان ويصبح كتلميذ على مقاعد السّنوات الأولى من الدّراسة ولا يُعامل كطالب مسؤول يكابد لإنهاء سنته الأخيرة من المرحلة الأولى للتّعليم العالي. لقد سميّ بالتّعليم العالي فقط لأنّ منبع القرارات تصدر من أعلى مكتب في الوزارة، ولكنّه في الحقيقة سافل لأنّه يخرج من بطون الجامعات آلات بشريّة أو أجسادا تملأ كراسي المقاهي الشّاغرة أو أشباه أناس منحطّي القيم يُفاخرون بشهادة لو أتوا بعشرات مثلها فلن يشفع لهم سوى النّسب أو الأقارب في الحصول على عمل يضمن كرامتهم. هي حقيقة يدركها الطّالب والأستاذ على حدّ السّواء. لذلك ولج الأستاذ المدرّجَ كعادته، عبوسَ الوجه والملامح مُتغيّرها مع بعض الوجوه المنقوشة بضحكات فاجرة، دون إلقاء تحيّة الصّباح.
*****
ها قد ازدادت آلام رأسي عند رؤيته! لست أدري لمَ بدأت ذاكرتي تنشط أوّل دخوله إلى القاعة. صحيح أنّ الرّؤية من هنا لا تسمح لي بمشاهدة تفاصيل وجهه الصّغيرة لكن هيئته ذكّرتني بشيء مهمّ… أو أشياء مهمّة. لا أعلم ما هي. إحساس غريب تملّكني مع أوّل كلماته الغامضة، نبرة صوته كانت كفيلة بأن تُـجريَ الدّماءَ في عروقي وأن تُرجع الحياةَ إلى جسدي. مشاعرُ سخطٍ وكره ومقت رافقت ْكلماته وليست لي دراية بسببها. أو لعلّ ذاكرتي المرتاعة لرؤيته تخبرني:
****
البارحة، قصدتِ مكتب الأستاذ لتطلبي منه المساعدة في مشروع التّخرّج. واجهكِ بجفائه المعتاد وقد أخذ يستمع إليك في شرود حاولَ إخفاءه. لم يكن خياركِ أن تتوجّهي إليه بطلب المساعدة، لكنّه لم يكن سوى الوحيد الموجود آنذاك والوحيد الذّي يستطيع إفادتكِ في تساؤلاتك. بعد أن استمع إليكِ، تبسّم وقال لكِ: “أستطيع مساعدتك في كلّ ما طرحته عليّ، لكن ما هو المقابل؟”. تسمرتِ مذهولة في مكانك عندها، كانت آخر توقّعاتكِ أن يقدّم لك أستاذكِ المساعدة بمقابل. أردتِ أن تذكّريه بأنّه يتقاضى مرتّبا من الوزارة كي يجيب عن أسئلتك وأسئلة غيرك. وأردتِ أن تذكّريه أنّه لا يتأخّر عن مساعدة زميلاتك، لكنّه فاتك أن تسأليهنّ عن أجرته. نهض من كرسيّه فتفطّنتِ إلى شرودك الذّي طال، تقدّم نحوكِ خطوتين وكأنّه سمع ما دار في أغوار دواخلك ثمّ قال: “إن لم يكن معك المال الكافي، فليست بمشكلة. أنتِ ولا شكّ تعلمين أنّ طرق الدّفع عديدة”.
خياران كانا أمامك، إمّا أن تنصاعي لما يريده وتتقدّمي في مشروع تخرّجك، وإمّا أن ترفضي إلى أن تجدي منفذا آخرَ.
*****
كنتُ حائرة لا أقوى على الإجابة من هول المفاجأة، أردتُ أن أجمع غضبي في قبضتي وأن أسدّدها إلى وجهه المزّين بنظارته الطّبيّة الفاخرة لتتهشّم وتترك آثار جرأته الوقحة على وجهه.
أصبحَ على بعد خطوتين منّي، وأصبحتُ قادرةً على سماع صرخات قلبي المتوتّر. علّه فهم من صمتي أنّها علامة الرّضا فساعده ذلك على الاقتراب أكثر. أنفاسه الملتهبة تجرّأت على الالتصاق على بشرتي بينما ابتسم بمكر قائلا: “آشْ قُلْت عاد؟”. سدّدتُ إليه نظرة مكسورةَ الخاطر ففهمها حسب غريزته ومرّر يديه من وراء شعري. أردت إخباره أنّني لم أقبل عرضه لكنّ الجُـبن كبّل لساني وأعضائي. ببطء قرّب رأسي منه ثمّ لثم شفتيّ، مرّت اللّحظات وكأنّها دهر تذكّرتُ فيها أبي المبتور الأطراف جرّاء حادث عمله منذ سنوات في الكهرباء. أصابته صاعقة أثناء عمله وهو الذّي عارض رئيس عمله وأصرّ على إصلاح سلك الكهرباء ذات مساء شتويّ كي لا يظلّ أطفال قريتنا بلا نور ليلة الامتحانات التأليفيّة الأخيرة. بعدها أصبح كتلة هامدة في ركن البيت تقوم على خدمته أختي الصّغرى، إذ سمحت حادثته بترقية أمّي من ربّة بيت إلى معينةِ منزل تستعطف رحمة مشغلّيها. تذكّرتُ أيضا أخي الأكبر الذّي وضع حدّا لحياته بعد سنوات من البطالة وهو المتخرّج بشهادة الأستاذيّة في علوم الحياة والأرض. كان طيلة سنوات يشحذ أمله في النّجاح في مناظرة الأستاذيّة رغم علمه بأنّه “إن لم يدفع فلن ينجح”. لكن، ألم يفكّر أن يدفع غير المال إلى رئيسة لجنة الامتحان في سنته الأخيرة قبل انتحاره كي ينال شرف الأستاذيّة؟ لا أعلم لمَ لمْ أفكّر في هذا السّؤال قبل هذه اللّحظة، ربّما لأنّني لأوّل مرّة أكتشف أنّ طرق الدّفع لا تقتصر على الدّفع نقدا أو بالبطاقة البنكيّة أو بالشّيكات حتّى وإن كانت بدون رصيد، بل إنّ الدّفع يتجاوز، لمن تجاوزته الرأسماليّة ومختلف الأنظمة الاقتصاديّة، إلى الدّفع حسب مؤهّلات الجسد.
كانت شفتاه تضمّان شفتيّ بينما بدأت يده رحلتها على هضاب جسدي لتتسلّل في خفّةٍ تحتَ ملابسي، عندها دفعته عنّي وقلت مقاومة بعض دموع الضّعف: “قيمة هذا الجسد تفوق أجرتك سيّدي.”
استدرتُ ناحية الباب تاركة أحلامي وبراءتي تحتضران على مكتب الأستاذ لكنّني أحسست بقبضة قويّة تشدّ كتفي ثمّ…
*****
… جذبها بقوّة فسقطتْ وغابتْ عن الوعي لدقائق كانت كافية للأستاذ أن يفكّر في التخلّص من هذه المتمرّدة الصّغيرة التّي صفعه صدُّها. ما من أحد قاوم جودة خدماته مقابل بعض الورقات النّقديّة وما من طالبة دخلت مكتبه تطلب مساعدته وخرجتْ دون أن تنالها وينالَ منها، إلاّ هذه الطّالبة أمامه تكبّرت وتجبّرت ورفضت. إهانتها له ذكّرته في آخر كلمة قالتها له زوجته الحبيبة عندما تفطّنت لممارساته مع ذواتِ الأنفس الطّيبة الضّعيفة، قالت له يومها “ما ارْخصكْ!”. يومها أحسّ بالذلّ يُغرقه ولم يتوانَ بعدها في تعذيب كلّ من تجرؤ على إهانة كرامته.
كانت قدّ مرّتْ ساعة منذ أن بدأ في تقديم الدّرس دون شرح، يتكلّم ويملي الدّرس وكأنّه يستعرض عضلات ذاكرته القويّة في الحفظ وفي تكرار نفس الدّروس لمدّة عشرين سنة كاملة. ثمّ أخذ، كعادته عند إلقاء الدّرس، في التّجوّل في الفضاء الضيّق الذّي يفصل مكتبه الخشبي عن مقاعد المدرّج ليكمل مشواره القصير في الدّرجات القليلة التّي تؤدّي إلى أعلى المدرّج وبهذه الطّريقة يعاين وجوه طلاّبه النّجباء من بين أوجه الفاشلين. ثمّ سُمِعَ صوت آمر: “اتركوا المدرّج حالا!”
******
كانت أطرافي متجمّدة أكثر من العادة هذا الصّباح، لذلك لم أستطع الكتابة حتّى عندما عادة قدرتي على السّمع والرّؤية. لم أدرِي كم مضى من الزّمن وأنا شاردة أحاول أن أركّز على الدّرس بعد أن فقدتُ التّواصل مع ذاكرتي مرّة أخرى. رحتُ أسترجع ذكريات الأمس في مكتب الأستاذ وأجهّز نفسي لكلّ الاحتمالات الممكنة بعد ما حدث معه. رأيته وقد أخذ يتجوّل ويملي درسه غير عابئ بما حدث بيننا بالأمس، أصبحتُ خلال ساعات نكرةً بالنّسبة له. ثمّ بدأ في صعود درجات المدرّج الواسعة بخطى ثابتة وبدأتْ جميع حواسيّ تنذر بالخطر القادم. كنتُ جاهزةً للانفجار في وجهه إذا طلب منّي بكلّ وقاره لمَ لا أكتب الدّرس، لكنّه بدل ذلك أخذ في الاقتراب أكثر فأكثر من مكاني في آخر المدرّج، ثمّ صرخ في الطلاّب أن يتركوا القاعة. أردتُ الالتحاق بهم لكنّ العجز غلبني ولم أقوَ على الحركة. كنتُ أنظرُ صوبا إلى عينيه ورأيته يأخذ جوّاله ويقول: “ألو! سيّدي الملازم، هناك جثّة طالبة في كليّة العلوم بتونس…”.
لكن، عن أيّ جثّة يتحدّث؟ لا! إنّ ما يحدث لا يمكن أن يكون سوى حلم!
******
- ثمّ ماذا حدث بعدها؟
- ما حدث مع من؟
- مع الفتاة.
- نُقلت إلى قسم الطبّ الشّرعي، قيل إنّها خُنقت بخيط رفيق حتّى الموت ولم تبدُ عليها آثار مقاومة.
- والأستاذ؟
- ما به الأستاذ؟
- هل تفطّن المحقّق إلى جريمته؟
- عندما استجوبه عن سبب صعوده إلى آخر المدرّج أجابه بأنّه يحبّ النّظر إلى طلاّبه وحتّى لا يقيّدونه بنظراتهم، ولـمّا وصل إلى آخر المدرّج اكتشف الجثّة. وعندما أخبره المحقّق أنّهم شاهدوا الفتاة لآخر مرّة في مكتبه أخبرهم أنّها كانت بحاجة إلى يد المساعدة فقدّم لها ما أرادت.
- لكنّه قتلها، لم يساعدها!
- في كلّ الأحوال يا بنيّ ستموت، عندما تترك مقاعد الدّراسة ستُعايِن الحياةَ تطبيقا بعيدا عن كلّ النّظريّات وستكتشف أنّها كغيرها من سكّان هذا البلد: جثّة بلا روح! وبقتلها تحرّرت روحها المقيّدة ودُفن الجسد وحده وهامت الرّوح تبحث عن جسد آخر للسّكن به. هي إذا مساعدة بمقابل بسيط.
- والأستاذ كيف واصل التّدريس بعد هذه الجريمة؟
- قيل إنّهم شاهدوا فتاة أخرى دخلت مكتبه، وبعد سنوات أصبحت زميلته في التّدريس…
سيرين بن حميدة / تونس