كعادتي… أحمل أمتعتي ، وأنطلق مع الشمس ، أصل ذلك الشاطئ ، أخطو على رماله الملساء ، ولكن هذه المرة ليست ككل مرة ، حيرة ٌ جديدة تطرق باب عقلي ، نشوةٌ رائعة يشاطرها خوف عنيف … فضولٌ مجنون يشدني إلى تلك الصخرة …أجلس عليها ، تحدق عيناي في البحر ؛ فتمطر في رأسي آلاف الأسئلة ؛ لتنتهي على شفتي علامة سؤال : ما أنت أيها البحر؟ .
عدت في المساء وقد نحت البحر صوره في ذاكرتي المتعبة … ولجت إلى الكوخ ، أعددتُ فنجاناً من القهوة ، وألقيت بنفسي على الكرسي الخشبي ، أشعلت سيجارتي ، تصاعد الدخان ، بدت النوافذ عمياء ، وبدأت عيناي تعرض ما خطته الذاكرة على تلك النوافذ حتى أصبح عالمي كفنجان غجرية ترصد ألغاز طريق يملؤه الضباب .
نهضت من مكاني ، نفضت الغبار عن المصباح وأشعلته ، كان نوره خافتاً ، علقته بجوار اللوحة ، وبدأت أخط بريشتي القديمة سدول أجنحة النورس عند عناقه للبحر … تذكرت نفوره منه ؛ ارتعشت يداي ، تأرجح المصباح ؛ فازدادت خطوطي إبهاما ، وعندما حاولت رسم الأمواج باللون الأزرق سقط اللون الأسود من مقلة الليل .. انطفأ المصباح ، وسقطت الريشة من يدي .
عدت إلى مكاني ، جلست على الكرسي ، كانت نظراتي تائهة ، شعرت باسترخاء غريب ، أطبقت أجفاني فرحتُ في رحلة غامضة …. كسرت ريشتي … مزقت اللوحة … امسكت بالمجداف… وسحبت القارب حتى دخلت البحر … ارتفعت الأمواج الغاضبة … نادت الطيور بعضها معلنة الرحيل … اختبأت الأسماك … تجلى ماردٌ وحشي الملامح .. صرختُ بأعلى صوتي ؛ أطبق على عنقي … فجأة تألقت نجمةٌ في السماء …تلاشى المارد… لامست أشعتها عيني … شعرت بالدفء ، وغرقت في نوم عميق.
ولم اصحُ الا عندما رمت الشمس طرحتها على البحر لتريني عالمها : ألحان نسيم رقيقة ، أسماكاً راقصة ، طيوراً متعانقة ، عندها غزت تلك النجمة ذاكرتي ؛ فتوجهت بأسئلتي للسماء … اهتز القارب … اجتاحني الرعب … صوت موسيقى أخذ يتسلل إلى أذني … انسل مني الرعب تدريجيا ً … استدرت بحذر … كان طائراً أبيض جميلاً على حافة القارب … تحركت نحوه بهدوء ، نظرت إليه ، أمسكته بين يديَّ ، كأن النجمة تحوم في عينيه … همست بأذنه ، ثم أطلقته ، وما زالت عيناي تلحق به حتى ابتلعه الأفق …
دخل الليل … توسلت للمارد ، وأخذت أهدئ من روع قاربي الذي أخذ يصارع الموج بجنون … شعرت أن الموت يدنو …. استلقيت على ظهري منتظراً عطف الإله … صوتٌ هزيلٌ متعبٌ هناك ، لكنه ليس غريباً عن أذني “… آه … الطائر … إنه الطائر… لقد أتى ” نهضت، نظرت إليه ، أصابني الفزع ؛ كان ريشه ممزقاً ، والدماء تملأ جسده ، والدموع تنهمر من عينيه ، لم أتمالك نفسي ، انهمرت من عيني الدموع ، لا أدري ماذا أصابه … نظر للسماء … أخذ يلهج بحروف لا تكاد تبين عما يريد ” ا ل … نج … مة … را…” صمت بعدها ، حركته بقوة عله يفيق ، لم يصحُ الطائر … صرختُ بأعلى صوتي : ” نجمتي ” وردد الأفق صرختي ” نجمتي “… ” نجمتي “… في تلك اللحظة أحسست بصفعة عنيفة … نظرت حولي وإذا بي ملقىً على الأرض ، وعلى صدري الكرسي الخشبي ، وعلى جانبي فنجانٌ مكسور قد تسربت منه القهوة لتشكل لوحة ” سريالية ” مسحتها بإصبعي ، وانطلقت نحو البحر .