لصحيفة آفاق حرة
فنيّات المشهديّة الروائيِّة
في رواية (سماء قريبة من بيتنا) للروائيّة. شهلا العُجيْلي.
بقلم. الروائي: محمد فتحي المقداد
مقدّمة:
شهيّة القراءة الواعية جعلتني أقرأ بحُبٍّ. لرواية (سماء قريبة من بيتنا. للروائيّة شهلا العُجيْلي). كلّما توغّلت في دروب سرديّة الرّواية.. اِزددتُ يقينًا.. بموهبة الكاتب المُثقل بالثّقافة العامة والمعرفة بعديد أوجهها، والخبرة الكتابيّة بتطويع اللّغة.. لصناعة الحدث بتقنيّات وفنيات الحداثة، وفق مشهديّات متقنة تمامًا، لا تجعل مجالًا للقارئ بالإفلات من سطوتها، بما توافر عليه من اِنسجام، لتأسره، وعندها لا يستطيع مغادرة النصّ إلّا بعد الانتهاء منه، وربّما يعيش زمانًا وفكرة النصّ تُعشعش داخله اِستيطانًا كولولنياليًّا أبديًّا، وتأبى المغادرة.
مشهديّات مختارة:
–مشهديّتان:
واحدة وردت في الصّفحات الأولى للرّواية، والثانية في آخر صفحة، بل وآخر فقرة ختمت الرواية بها:
*يسمق الصفصاف أمام عمارات محطة بغداد، التي تصل إلى أدوار ستة، وتدخل أغصانه من الشبابيك المفتوحة في الطابقين الأولين، تطل على الساكنين، وتتلصص عليهم في غرف النوم، و تصافح فناجين قهوتهم التي تدور في الصباحات والمساءات) ص٣٩.
*أغصان الصفصاف انثنت من شدة الهواء حتى لامست رأسي، ثم انفرجت ففاجأتني قبة السماء وقد انجلت العيني شيئاً فشيئاً، وحين انطفأ صف من الأضواء في أحد طوابق المركز، صارت النجوم أكثر لمعاناً، وبدا كلّ شيء محتومًا، الألم، والموت، والشفاء. السماء هنا قريبة قريبة جدا، ولا تحتاج إلى سلالم أو حبال.) ص٣٤٢).
*(أقدام العابرين القلائل تهدي لي إيقاع النوم، وهمهماتهم تصيع بين يقظتي ومنامي، فأسمع أحيانًا مفتتحات قصصهم، لأكملها في أحلامي الطويلة. (ص ٣٩).
*حينما يحطّ الليل على منطقة الرابية تتحوّل الحديقة أمام سريري إلى مرتع للريح، أسمع أصواتا تشبه النعيق، وهرير قطط وتتحول الأشجار إلى أشباح متعانقة، فأنطوي على نفسي في السرير، وأهرب بعيني إلى السماء فأراها أكثر ألفة، أحملق فيها أكثر فأكثر، فأجدها قريبة ونجومها مثل قطع حلوى غزل البنات، واستطيع أن أتناولها بمجرّد أن ارفع يدي، تشبه السماء فوق بيتنا. (ص٨٨).
*كنت كلما صفّر القطار هناك قرب بيت جدّكِ، أخرج إلى الشرفة، وأحاول أن أقبض على ملامح الجالسين خلف النوافذ الزجاجية العريضة، لكنه يمضي سريعا، وطبعا لم يصل إلى حيفا. (ص٩٩).
*”كورين” – زوجة ناصر أحد رواة السرديَّة – تنسحب شيئًا فشيئًا من دائرتنا. هي تقلّبات النساء، لا سيّما حين يقتربن من منتصف العمر.(١٠٣).
*السلاحف لا تكترث لأحد، تترك بيضها على جزر غريبة، وترحل بعيداً. وعلى المواليد الجدد أن يتحمّلوا مسؤولية الحياة، أن يخرجوا من قلب الرمل بقوّة أطرافهم، ويسبحوا باتجاه الماء. لا أحد يدلهم على الطريق وحدهم سيعرفونه.(ص١٠٤).
*إن حياة السلاحف تلخص حياة المخلوقات كلها. تترك أولادها لقوة الحياة، وتقتل بشجاعة قناديل البحر، ومن يستحق منها الاستمرار سيستمر.(ص107).
*”كورين” قاست حملها بأولادنا على عالم السلاحف، وإن ارتفعت حرارة البيئة الحاضنة كانت الفقسة إناثًا، وإن انخفضت فالفقسة ذكور. رتّبت لحَمليْن ذكوريين في جو بارد. وحملت بالبنت في جو حار، وأصابت التجربة في كل مرة.(ص107).
*البراكين القديمة إذا ما ثارت، تترك وراءها مياهًا دافئة تشفي من الأمراض، وتربة خصية تُنبت أجود المحاصيل..!. (ص١٠٩)
*مناهجنا لم تهتمّ سوى بالظواهر الحتميّة، يؤكّ لنا المدرّسون كلّ سنة أنّ نهر الفرات ينبع من جبال طوروس، وينبع نهر النيل من بحيرة فكتوريا.(ص١١١).
*في ظل الحرب يفتقر بعصهم، ويزدهر المستفيدون، ودائما هناك فئة مستفيدة من هذا الخراب، في الحرب يعمل المتورّطون فحسب، الباقون ينتظرون، وسواء كانوا مستسلمين أم جزعين، فالجغرافيا وحدها ستحسم المعركة..(ص١١٥).
*الدول التي تزوّد المخيّم بالمعونات، وقد يكون لها اليد الطولى في تبعثر ناسه، وتجميعهم من بعد، وتحويلهم إلى لاجئين. جول تقتل بيد، وتدفع الديّة بالأخرى. (ص١٢٢)
*الذين يظنّون أنّ العمل الإنسانيّ مثل إدارة دُكّان خاصّ أو مؤسّسه حزبيّة، فيضعون العصي في العجلات لكلّ فكرة مُغامرة، كيلا يلمع اسم صاحبها في إسعاد البائسين، ويطمس أسماءهم الرّخوة. ص١٢٤.
*أنا الوحيدة التي لست من مدينة أو محافظة، بل من ولاية إسلاميّة، وأهلي لا يزالون يقاومون فيها فكرة الانسلاخ عن الجمهورية، مثلما يقاومون فكرة اللّجوء.
(الكلام عن مدينة الرقة/ ص١٣٥)
*-ماذا تفعلين، يجب أن تكوني داخل الخيمة. – أتامّل النّجوم. ضحكوا: ممنوع، نرجو الالتزام بالتعليمات. – غريب، لا يمكن للمرء أن يُمارس حريته حتى في العراء.!. قال أوقحهم: كلّ هؤلاء الذين يتكدّسون في الخيام، طلبوا الشيء ذاته، الحرية. لذلك صاروا هنا. (ص١٣٦).
*إن ما يُقال تحت سقف أوتيل “كمبينسكي”، يمكن أن يُقال تحت سقف خيمة من كتّان، ومع مزيد من الإنسانيّة. (ص١٤٢).
*كنا حينما نستلقي في عليّة بيتنا ليالي الصيف، تكون السّماء قريبة جدًّا؛ فتقول سلمى: لو وضعنا سلّما فوق سلّم. هل نصل إلى الله؟. (ص١٤٢)
*أعطوني سُرّة المولودة ملفوفة في خرقة ملوّنة، وقال أبوها: أرجوك، ارميها في مدرسة أو جامعة، أريدها أن تصير مثلك دكتورة، وفكّرت. تُرى أين رُميت سُرَر كل هؤلاء اللاجئين حينما كانوا أطفالًا؟. (ص١٤٢)
*فمن يُرزأ بالسرطان، يظنّ أنه سيموت في اليوم التالي لتشخيص حالته، لكن مع مرور الوقت والحصار المستمر بالآلام، يعتاد فكرة الموت، ويتوقعه في كلٍّ لحظة. (ص١٤٩).
*قرأت الورقة التي تخولني الدخول إلى مركز العلاج. كُتب فيها اسمي، والرقم الذي مُنحته، ووصف للحالة: “لإصابتها بسرطان الغدد اللمفاوية”. لم يكن اسمي لي، شعرت بغربة فظيعة تجاه حروفه، ومنذ اليوم لن أعود أنا، أنا رقم في إحصائيات المرضى في مركز السرطان.(ص١٥٣).
*”جون. مواطن أمريكي زار سوريا” -كان لا يكفّ عن أكل الموز، يحمله معه إلى كلّ مكان. قالت ماما: نشكر الله أن الزيارة لم تكن في الثمانينات حيث كان الموز اختفى من البلاد، بسبب سياسة شد الأحزمة ، ومنع الاستيراد.(ص١٥٥).
*الأطباء بعيدون عن عالم اللغة والطقوس، ولا يدركون أن التجربة المحكيّة أقسى الإجرائيّة.(ص)١٥٩).
*الطبيب يدخل عقول الذين يعيشون أيّامهم النهائية، ويكشف أجسادهم، ويسمع بوحهم الأخير وكلماتهم التي يقولونها عند حافة النهايات والتي تكون أكثر صدقًا على الإطلاق. إنه عتبة أخيرة نحو الموت أو عتبة أولى باتجاه الحياة وهذا التناقض يمنحه سحرًا: الأسود والأبيض والحياة والموت وكل شيء. (ص١٨٨).
*وجه المُخلّص (الطبيب) في كلّ مرّة فيها مشوبًا بالقلق، هيّابًا من نظرة المريض الذي قد تجعله الآلام يستعجل قدره، فلا أحد يضارع في قوته مريض السرطان، وهذا المُخلّص بكى كثيراً مع المرضى حتى تهشّم قلبه، فتوصّل إلى تسوية مع قدره، ومع أقدار الآخرين. (ص١٨٩).
*إن فكرة التحرّر أجمل ما في المرض.! التحرّر من الأشياء كلّها، ومن الأعراف كلها، ومن الزمان والمكان، والخطأ والصواب، وحتى من الحنين. (ص١٩٠)
*(في حالة المرض) الاستسلام ليس مفردة سلبيّة أبدًا، تأخذ أجلّ المعاني، إذ تعني أن أهدأ، وأطمئنّ في بُعد رابع من الوجود، أوغِل فيه بالتخلّي عن جسدي، وأحلامي وتطلّعاتي. (ص١٩٣).
*الجمل المفتاحية:
-ليس كل ما نريده، نستطيع أن نفعله. (ص١٧).
–الجغرافيا عدوّنا الأول. “إدوارد سعيد” (ص١٧).
-إن الأسرار تقبع دائمًا في الأشياء المُتناهية في الصّغر، والتي تولد منها الأشياء الكبيرة، وإنّ الشكل المُكتمل كالدّائرة، هو شكل ميّت، ليس فيه مكان لِسرٍّ مُحتمَل. (ص٦٩).
– العقل لا يولد الخيال من فراغ، بل من مواد خام. (ص٨٩).
– ليء ضروريًّا أن نتفوّه بالحكمة، أو نحيط أنفسنا بالحذر المُحيّر، لنكون مؤثّرين. (٨٩).
– اللاجئون لا يخضعون للتقسيمات الطبقيّة التي تخصّ المجتمعات المُستقرّة، هم بذاتهم طبقة، اللّاجئ ثائر بطبعه إلى أن يثبت العكس. (ص٩٣).
– في علبة الكبريت، متى اشتعل العود الأوّل؛ احترقت الأعواد كلّها. (ص٩٥).
– البراكين القديمة إذا ما ثارت؛ تترك وراءها مياهًا دافئة. (ص١٠٩).
– لا أحد يمكنه أن يحكم على رغبات الآخرين. (ص١١٥).
– الرجل لا يظهر على حقيقته إلّا حينما يرتدي البيجاما. (ص١١٥).
– أفضل طريقة من أجل الانتماء إلى مكان ما، هي محاولتنا الحثيثة للتأثير فيه،، ولتغييره نحو الأفضل. (ص١١٥).
– هناك مرّات قد ترتكب فيها أيّة كلمة زائدة فعلًا تدميريًّا، وعلينا أن نعرف جيدًا من نتوقْف عن الكلام. (ص١١٦).
– ماذا بيد المرء سوى الاستسلام، حين تتعاظم قوى العالم من حول ضآلته. (ص١٣٩).
– تفزعنا الطّريق أكثر من الهاوية التي تُفضي إليعا. (ص١٤٦).
– تكشّف الحقائق يحثّ النّهايات على أن تحسم أمرها. (ص١٥٠).
– ليس لنا حقّ في البكاء، لنا حقّ في العلاج. (ص١٥٢).
– يخاف الأطبّاء من نظرة المرضى التي تحاول افتراس الأمل من تقاسيمهم. (ص١٦٤).
– لكن ثمّة وجوهًا تفرض ملامحها على الذّاكر مهما كان الظرف. (ص١٧٥).
– المجانين وغريبي الأطوار هم الأفضل لعلاج الأمراض الصّعبة. (ص١٧٧).
– الإجابات عن الأسئلة ستأتي من تلقاء نفسها. (ص١٨٣).
– المعجزات تأني كلّ لحظة. (ص١٨٣).
– لا يمكن لأحد أن يُقْيم علاقتك بالله. (ص١٨٣).
– كل الأشياء صغيرة ما دامت ساعتي السريّة قد تحقّقت في ذلك اليوم. (ص١٨٤).
– ففي الحقيقة النهائيّة جسدك هو وطنك، والخيانة العظمى خيانة جسدك. (١٨٦).
– الإجابات تأتي كالعادة في غير وقتها. ص١٩١).
– الهيمنة كثيرًا ما تصنع من الضّحايا عُشّاقًا. (ص٢١٩).
– الآلهة إذا تهاوت لا تقوم ثانية. (ص٢٤٤).
– المُبتدئون هم الذين تُراودهم الأسئلة. (ص٢٤٨).
– المنح والمنع يوزنانةذ بميزان الذّهب هذا ما يجهله كلّ الرّجال. (ص٢٦١).
– الإحباط يأخذ شكل موت مجانيّ في ذروة الفرح. (ص٢٧١).
– الحزن أيضًا يحتاج إلى طاقة. (ص٢٧٩).
– الوجوه لا تكذب. (ص٢٩٣).
– هل ثمّة بلاد بحريّة تدير ظهرها للماء. (ص٢٩٥).
– الحمار سريع الامتثال، لا يتردّد في منح ظهره للجميع. (ص٢٩٦).
– ملح هرمز (مضيق هرمز) ملح نفيس، يمنح السّمك طعمًا ممتازًا. (ص٢٩٧).
– لماذا حينما تسري روح الألفة بيننا وبين الأشياء نبدأ بفقدها؟. (ص٢٩٩).
– القراصنة لا عناوين لهم. (ص٣٠٣).
– في الحرب لا أحد يملك مصير الآخر. (ص٣٢٥).
خاتمة:
“سماء قريبة من بيتنا” جملة اِسميّة جاءت عنوانًا؛ لتمثيل المكان بكامل حيثيّاته، وتجليّاته، وأدبيّاته، من هنا نستطيع الولوج إلى عالم الرّواية، التي تُمثّل سرديّة المكان الذي استطاعت الروائيِّة “شهلا العُجيْلي” نقله من فضاءاته الواقعيّة العديدة، لتجعل منه ميدانًا روائيًّا مقروءًا، ولتأخد القارئ معها إلى سياحة، ولا يخفى الحنين والشوق لمسقط الرأس، ومرابع الطفولة، والجامعات، والمنتجعات السياحية، والحدائق والفنادق، والشوارع، والطُرق السّريعة، والمقاهي. اشتغلت على ذهنيّة القارئ لتأخذه في جولة سياحية إلى مدينة حلب والرقّة وعمّان وتونس ويافا.
كما استطاعت بمهارتها نسج توليفة متناسقة من خلال المادّة التاريخيّة للأشخاص، واتّخذت لسجّادتها المكان؛ لتفرد فيه الزّمان بين الماضي والحاضر، على محامل اللّغة والذاكرة، للخروج من مأزق المادّة التاريخيّة؛ لتكون سهلة التناول من خلال عمل أدبيّ، ولتضمن عدم هروب قارئها.
سِمَة الرّواية كثرة المشهديّات المرسومة بعناية، وهي رواية مثقفة تُضيف أشياء كثيرة لقارئها، ولقد أبدعت الروائيّة “شهلا العُجيْلي” في التعاطي مع المعلومات بطريقة بسيطة، وبحرفيّة خبيرة استطاعت إيصال رسالتها بيسر وسهولة، السّهل الممتنع أسلوبها، بلغة شفيفة بلا تعقيد ولا تحيير لمن يقرأ روايتها.
والرواية بمجملها من الأدب الواقعي، الذي يؤطّر فكرة أدب اللُّجوء والثورة السّوريّة، ولم تتردّد في انتقاد واضح وصريح للممارسات الخاطئة والمُنحرفة والمتطرّفة من الجماعات الإرهابيّة السيّئة والمُسيئة لقيم الإسلام الحنيف، وخروج على ثوابت المجتمع.
إربد . الأردن _ا ٣١/ ١٢/ 2022
كل التقدير والاحترام والمحبة