مقامات اللحن المكسور لدى الروائى  نشأت المصرى .

رؤية الكاتب :  رضا يونس  

ليست روايةً تقليدية تُرْوى، فيعجب بها المتلقِّي، ويمرُّ إلى غيرها، إنما سيمفونيّة تُعزَف على أوتار الحروف، فيهتدي القارئ فيها إلى ضالّته، حيث يتحوَّل النصّ إلى مشهدٍ حيٍّ من الانفعالات والتجارب الإنسانيّة. هنا، لا تُستخدم الكلمات كوسيلة لنقل الأحداث فحسب، بل تصبح ذاتها الحدث، تتناغم وتتصادم، تصرخ حينًا وتهمس حينًا آخرَ، تتكسّر ثم تعود إلى النهوض من جديد.

المُطّلِع على أدب “نشأت المصري” يعلم باليقين أنه لا يترك لقارئه فرصةً للاكتفاء بالمشاهدة من الخارج، بل يدعوه للدخول إلى عمق اللحن المكسور، إلى نبض السرد ذاته، حيث تسير الحكاية على خيطٍ مشدودٍ بين الموسيقى والصمت، بين ما يُقال وما يبقى في طيّ الاحتمالات. رواية “اللحن المكسور” تجربةٌ تتجاوز حدود النصّ التقليديّ، لتفتح أبواب التأمُّل والتفاعل، وتجعل من القارئ جزءًا من عمليّة الخَلْق ذاتها.

في هذا العمل نحن أمام سردٍ يتجاوز حبكةً مرسومةً بعناية إلى بناءٍ شِعريٍّ ينبثق من قلب اللغة، ليحمل روحًا خاصّة، روحًا تشبه المقطوعات التي وُلدت من الألم، لكنها تحوّلت إلى لحظاتٍ من الجمال المحض. وكما أن اللحن المكسور ليس نشازًا، بل نوعٌ آخرُ من الجمال، فإن السرد هنا لا يخضع لقوالب ثابتة، بل يتحرّك في مساحات غير متوقّعة، يصوغ وجوده بحرّية، ويُسائل نفسه كما يُسائل القارئ.

لا تكتفي هذه الرواية بسرد الحكاية، بل تتعامل معها كمادّةٍ حيّةٍ خصبةٍ قابلةٍ لإعادة التشكيل، فنرى الشخصيات تتجاوز دورها النمطيّ، وتتحوَّل إلى كائناتٍ من ضوءٍ وظلال، تحمل هُويّتها المتبدّلة كما تحمل جراحها وأحلامها. كل مشهدٍ هنا ليس هو لوحةٌ مكتملةٌ، كل جملةٍ هي نغمةٌ تُضاف إلى اللحن العام.

ووسط هذا العزف السرديّ، يحضر القارئ كمستمعٍ مشارك، ليس متلقِّيًا سلبيًّا، بل كمن يبحث عن نغمةٍ ضائعةٍ بين السطور. فالسؤال الذي تطرحه هذه الرواية ليس فقط “ماذا يحدث؟” بل “كيف يحدث؟” و”لماذا نشعر بهذا الشكل ونحن نقرأ؟”. رواية “اللحن المكسور” دعوةٌ لاكتشاف الجانب غير المرئيّ من الحكاية، ذلك الجانب الذي لا يُحكى مباشرة، لكنه يتسلّل بين الفواصل، ويمنح النصّ عمقه الحقيقيّ.

الروائي “نشأت المصري” لا يكتب نصًّا يمكن تصنيفه بسهولة، بل يخلق تجربةً تتحدّى التصنيف ذاته. فالسرد في لحنه المكسور أشبه بموسيقى تجريبيّة، تخرج عن المألوف دون أن تفقد قدرتها على التأثير، تسير بخطوات متعرِّجة، لكنها تصل في النهاية إلى قلب المتلقِّي. وبين مقامٍ وآخرَ، وبين كسرٍ وانبعاثٍ جديد، نجد أنفسنا نعيد التفكير في ماهية السرد ذاته، وندرك أن الجمال لا يكمن دائمًا في الانسجام، بل أحيانًا في اللحن الذي يرفض أن يكون كاملًا، لكنه يظلُّ مؤثِّرًا حتى النهاية.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!