الفنّ ليس ترفًاً جماليًا ولا زينةً تُعلّق على جدران الذوقِ، بل هو حاجةٌ إنسانيةٌ عميقةٌ، تولد من تفاعل الشعورِ مع الوعي، ومن احتدامِ الداخلِ مع الخارجِ.
هو اللّغةُ التي تتجاوزُ المنطوقَ، والجسرُ اللامرئي الذي يربطُ المبدعَ بالمتلقي دون وسيطٍ .
وحين نتأملُ العلاقةَ بين الفنانِ وعمله، ثم بين العملِ ومُتلقيه، ندركُ أن الفنّ ليس مجردَ إنتاجٍ، بل تجربةٌ تتكاملُ أطرافُها بين المبدعِ، والأثرِ، والقلبِ الذي يُصغي.
الفنُّ لا يُختزلُ فيما تراه العينُ أو تسمعُه الأذنُ، بل فيما تستشعره الروحُ.
إنه ومضةُ شعورٍ، أو لحظةُ دهشةٍ، أوصفاءٌ داخليٌ تتكوّن فيه الرؤيةُ كما لو أنها تنكشفُ لأول مرة.
الفنّ ليس أدواتاً تُجمَع، ولا أفكارًا تُكرَّر، بل هو الإصغاء لما لا يُقال، والانتباه لما لا يُرى.
يعيش الفنان بعين ثالثة، تُبصر المعنى وسطَ الضجيج، وتلتقطُ الجمالَ في تفاصيلَ قد تبدو عابرةً ، يسمعُ الصمتَ، ويحوّله إلى لغةٍ ، يرى الألوانَ، لا كمجرد طيفٍ، بل كمادةِ شعورٍ.
وحين يبدعُ، لا يفعلُ ذلك بقرارٍ مسبقٍ، بل بانسيابِ شعورٍ ناضجٍ، يتجلّى عبر وسيط يختاره: ( لون، أو صوت ، أو حرف، أو حركة ، أو لحن، أو حكاية ).
والشاعر كالرّسام، والموسيقي كالقاص، لا يختلفون إلا في الأداةِ، أما جوهرُ الإبداع فواحد: ( التعبير الصادق ).
إن الحروف، كالألوان، تحيط بنا جميعًا، لكن المبدع وحده من يعرف كيف ينفخ فيها الحياة.
ثمانية وعشرون حرفًا تكفي لتشييد عالمٍ متكامل، إذا ما وقعت في يدٍ تعرف كيف تصوغ من اللغة دهشة، ومن الشعور نصًا يمسّ الوجدان.
وكل مبدعٍ يمتلك نبرته الخاصة، وأسلوبه الذي لا يُشبه سواه.
فالفنّ لا يُقلَّد، لأن الشعور لا يُستنسخ.
ومنذ أن وُجدت اللغة، لم تَفْنَ حروفها، لأن الأرواح التي تكتب بها تتجدّد، والقلوب التي تقرؤها تتنوّع.
إن الفنّ الحقيقي هو القدرة على منح المألوف روحًا جديدة.
هو تماهٍ بين الإحساس والوسيلة، حيث يتحوّل الشعور إلى أثر، ويغدو العمل الفني مرآة لصاحبه، وصدى لغيره.
تأثير الفن في المتلقّي
إن الفنّ، في جوهره، لا يكتمل عند لحظة الخلق، بل عند لحظة التلقّي.
فالكلمة، كالصورة واللحن، لا تكتسب معناها الكامل إلا حين تمسّ قلبًا مستعدًا لاستقبالها.
وما من عبارة، مهما بلغت من البلاغة، تؤثّر إذا جاءت في غير وقتها، أو خلت من الصدق.
الكلمات التي تُقال في العزاء أو التهاني، على بساطتها، لا تُجدي إن جاءت متأخرة.
فالفنّ، كالكلمة، يكتسب قيمته من اللحظة، ومن التوقيت، ومن مزاج المتلقّي وحال روحه.
قصيدة واحدة قد تُبكي شخصًا، وتُمرّ على آخر بلا أثر، على الرغم من أن النصّ لم يتغير.
إن المتلقي لا يستقبل فقط، بل يُعيد تشكيل ما يراه أو يسمعه داخله.
والكلمة قد تصبح مرآة، أو صفعة، أو عزاء، لا بحسب نية قائلها، بل بحسب وجدان من يتلقّاها.
ولهذا لا يوجد تأثير موحّد لأي عمل فني، بل توجد انعكاسات فردية، تتلوّن بتجربة كل شخص.
والأعمال التي تُخلّد، هي تلك التي تتجاوز الزمن، لأنها تمسّ مشاعر الناس عبر العصور، وتُشعرهم بأن هناك من عبّر عنهم حين عجزوا عن التعبير.
إن الفنّ رحلة تبدأ من شعور داخلي صادق، تمرّ عبر أدوات الإبداع، لتصل إلى قلبٍ آخر ،وما بين لحظة الخلق ولحظة التلقّي، يتكوّن المعنى الحقيقي للعمل الفني.
فلا وجود لفنّ دون مبدع يجرؤ على البوح، ولا خلودَ له إن لم يجد روحًا تصغي.
وكل عملٍ فني هو فرصة نادرة للقاء بين قلبَين لا يعرفان بعضهما،
لكن جمعتهما لحظة صدق.
ناجي نعسان آغا