في السيرة الذاتيَّة التي كتبها (بيير بنوا) عضو المجمع اللغُّوي الفرنسي وقام بترجمتها رشدي كامل ، وصدرت طبعتها الأولى عن دار الكاتب المصري في العام 1945 وقد أسماها المترجم ( غانية أطلانطا) بينما اسمها بالأصل الفرنسي (أتلانتا).
وهي بعثة استكشافية للجيش الفرنسي إلى بلاد الطوارق أو مناطق الثقافة والتُرّاث الطوارقي في الجزائر وصحراء المغرب وموريتانيا .
وفي الخطاب التمهيدي للكتاب الذي كتب في حي اينفيل في نوفمبر 1903 يقول عن مخطوطة هذه السيرة الروائية :
” سَلَّم الملازم نريير هذه الرسالة والمخطوط الذي يرافقها وكان هذا المخطوط في غلاف خاص مقفل ، إلى الجاويش شاتلان من الفرقة الثـّالثة من سلاح الفرسان في 10 نوفمبر 1903 ، يوم رحل هذا الضابط الى كاسلي الطوارق الأزجر (بالصحراء الوسطى) .
وكان الجاويش قد أمر بتسلمهما في أول إجازة له الى سيو لورو ، مستشار الشرق بمحكمة استئناف ريوم ، وهو أقرب شخص الى الملازم تريير ، وتوفي فجأة رجل القانون هذا قبل انتهاء مدة العشر سنوات المحددة لنشر هذا المخطوط ، فنتج عن ذلك صعوبات أرجأت إلى اليوم نشر هذا المخطوط.
وكانت أحداث الرواية تدور من خلال الكابتن (دي سانت آفيت) الذي عَيَّنهُ الجيش الفرنسي في المركز القريب من الصحراء للاستكشاف وجمع المعلومات التي تُهُّم الجيش الفرنسي الذي كان يخطّطُ لاستعمار هذه المنطقة الحيوَّية من بلاد المغرب العربي .
وانطلقت بعثة الكابتن مورانج ودي سانت الى بلاد الحجار والوادي الأبيض لاكتشاف النُّقوش الطوارقيَّة التي نقشت في الكهوف باللغة التفتارية الطوارقيَّة. وداهمتهم عاصفة صحراوية ماطرة سالت فيها الأودية الجافـَّة بغزارة وأخذت تعلو برغوتها الصفراء بتأثير ما سحب الماء من الكميات الكبيرة من الرمّل فاختارت البعثة مكاناً مناسباً لقضاء الليل . وتناولت الطعام بينما كان دليلهم العربي (بوحِمّه) يأكل الخسَّ والطوارقي الثاني (إج انطواين) قام الى عين الماء وتوضأ ثم فرد عباءته وغاب في الصلاة ، يركع ويسجد في روحانية خالصة ثم سَلمَّ وقام فتناول ورقة من الخس وقال : خسٌ سام .
وهذا الخسُّ الصحراوي السَّام قضى على بعثة كاملة من المغامرين والمكتشفين والرواد الذين لم يكونوا يعلمون أنَّ هذا الخسَّ قاتل السميَّة .
مات الدليل العربي المغربي (بوحِمَّه) فقاموا بحفر قبر ودفنه في نفس المنطقة التي مات فيها بعد ان صلَّى عليه ( إج انطواين) صلاة الجنازة.
هذه المشاهد وقعت كلها وهم ذاهبون من بلاد الحجار أو بلاد الخوف إلى تبسه) .
واصلوا رحلتهم حتى وصلوا إلى بئر ماء عليها رجال من قبيلة (الأجالي) الطوارقية قال لهم ( إج انطواين) : إنني أتجه والكابتن الى (جبل الجن) . فترك الرجال البئر وانطلقوا هاربين علماً أنَّ هذا الدليل من قبيلة (قلْ تهات) وهي قبيلة عبيد ، ولكنَّ الرجال عندما سمعوا اسم (جبل الجن) انتابهم الخوف ، لأنَّ كل طوارق (الحجار) يخافون جبل الجن بمجرد أن يسمعوا باسمه .
سأله قائد البعثة مورانج :
– أتقودنا إلى جبل الجن ؟
قال إج انطواين الطَّارقي :
– نعم ! فهناك النقوَّش التي حدثتك عنها .
– ولكنك لم تنبئنا بهذه التفاصيل ؟
– وما الفائدة ؟ إنَّ الطوارق يخشون الجن الذين تعلو جباهم القرون وخلفهم الذيول ويتدثرون بالشعَّر ويقتلون القطعان ويصرعون الرجال. ولكنني أعرف إنهم لا يخشونهم بل يسخرون من مخاوف الطوارق في هذا الأمر .
قال دي سانت أفيت :
– وأنت ؟ أأنت طارقي ولا تخشى هؤلاء الجن ؟
أشار إج انطواين الى كيس من الجلد الأحمر يتدلّى على صدره من سبحه ذات حبات بيضاء وقال برزانه :
– إنني احملُ حجابا باركه الولي الجليل سيَّدي موسى بنفسه ، ثم إنني بصحبتكم ، وقد انقذتما حياتي حين جرفني النهَّر الرَّملي حين اشتعلت عاصفة المطر الهوجاء وأوشكت على الغرق أنا وجملي ، لقد كتب الله لي النجاة وأنا سأكون خادماً مطيعاً لكما مقابل هذا الصنيع ، ولقد اردتما مشاهدة النـّقوش في بلاد الطوارق وفي الحجار وفي جبل الجن ، فلتكن فهذه مشيئة الله .
قال دي سانت أفيت مخاطبا رفيق رحلته مورانج :
– إنيّ اذكر الفقرة التي يقصُّ فيها (مارت) رحلته الى (العدنين) وهي جبل الجن عند طوارق الأزجر .
قال مورانج :
– لقد عاد منها بلا شك غير انه ضَلَّ الطريق في أول الأمر وكاد أن يموت عطشاً وجوعاً حتىَّ انهّ اضطرَّ إلى فصد عرق من عروقه ليشرب من دمه .
والشيء الجميل في هذا الكتاب هو ذكر أسماء قبائل الطوارق وأسماء الجبال والأماكن وآبار المياه ، وذلك الطقس الخرافي ، والخوف من المجهول ، وحرارة ودفء الصلاة على الرمال الحارة الملتهبة في النهار ، والباردة بشكل رهيب في الليل ، والظواهر الطبيعية التي يسمعها المسافرون في الصحراء الوسطى .
في هذا المكان الواسع الممتد الذي لا يوجد به إلا الحواجز الطبيعية كالجبال السوداء والتلال الصخرية وكثبان الرمل ، ومجاري السيول والأنهار الجافة في الصَّيف ، والتي تهدر وتصخب بعنف وقوة بعد هطول المطر ، والأشجار والنباتات التي تقتات منها الجمال وهو الحيوان الوحيد الذي يحتمل مثل هذا المناخ القاسي ، ويعيش به الرجال الأشدَّاء الطوارق الملثمون الذين يستعينون بعمائمهم الزرقاء السوداء لتغطية وجوههم حسب أعرافهم وعاداتهم ، وحماية الوجه والرأس من حرارة الشمس اللاهَّبة ، ومن قسوة حبَّات الرَّمل التي تثيرها الرياح العنيفة التي تندفع بسرعة هائلة في هذه البيداء الواسعة المفتوحة إلى آخر ما تراه عيون الإنسان .
وتلك العادات الصّارمة المنضبطة التي تعتبر قانوناً للصحراء ، وتلتزم بها القبائل ، مثل إكرام الضيف وحمايته ، وإيقاع العقوبات الصارمة بمن يتعرض للنَّساء في هذا المكان البعيد عن القرى والمدن المتحضرة .
إنّ لذة المغامرة والغموض والمجهول وتوقع المفاجآت التي تحدث فجأة وبدون ان يتوقعها الإنسان . هي التي تخلق ذلك الشغف العميق وتلك اللهَّفة المجنونة ، لزيارة بلاد الأسطورة والعرف والعادات الموروثة المتناقلة من جيل الى جيل ، والتي من الصعب بمكان أن يتمَّ إلغاؤها أو التمرد عليها وتغييرها ، مع ما هَذبَّه الدَّين الإسلامي وآيات القرآن الكريم وتعاليم الرسول الكريم محمد بن عبد الله صَلّى الله عليه وسلمَّ من الخشونة في نفوسهم والقسوة في مشاعرهم وأحاسيسهم .
وأنينا ملكة بلاد الحجار حفيدة أخر الاطلانطيين أعجوبة الأعاجيب وقد ذكرها أفلاطون حين تحدَّث عن قارة أطلانطس الغارقة في مياه المحيط . هذه الملكة الحسناء التي تحتجز الرجال في قصرها وتعاشرهم حتى إذا عشقوها تمَّ قتلهم ودفنهم في توابيت حجرية عليها أرقام وبهذا تنتهي كل مرة حكاية عاشق تمَّتع معها ثم حكم عليه بالإعدام .
والذي يأتي بالرجَّال هو ذلك الطَّارقي الغامض ( إج انطواين) أو اسمه الحقيقي (شيخ بن صغير) ولم ينفذ من هذه الحسناء القاتلة إلا ( دي سانت آفيت) الذي صمَّم على الهروب مع الجارية الحسناء السوداء وقد ساعدهم شيخ بن صغير بإعطائهم جملين لأنه كان يعرف أنَّ بيداء الرمل الواسعة لن ينجو منها أحد بدون ماء وزاد .
وقد هربا وماتت الجارية من العطش ، وعثر الجيش الفرنسي على الضابط غائباً عن الوعي فوق الرمال وحالته محزنة ، وقد تمّ إنقاذه ولم يعد الى حالته الطبيعية إلاّ بعد شهر .
قصة تقع بين الأسطورة والواقع ولكنها كتبت بهذا الشكل وابدع كاتبها وهو يروي قصَّة الضابط الذي فقد صديقه الكابتن مورانج الذي عشق الملكة وكان مصيره بتابوت حجري في القبو الكبير الواسع يحمل رقماً جديداً .
لقد رأى كُلَّ ذلك قرأ أسماء الرجال والأرقام وصَّمم على الهروب لأنه لم يندفع وراء عاطفته وشهوته وفهم قصة هذه المرأة الحسناء الغامضة التي تقتل الرجال بعد ان تجعلهم يعيشون أجمل أيام حياتهم ، بين اللَّذة والطعام وكلُّ المتع التي لا تخطر على بالهم ، إلاّ ذلك العائد من متاهة الرَّمل الجافّة التي بلا ماء ولا طعام ، لقد عاد ليروي لرفاقه قصة قصر الملكة الأسطورية وحكايات الرجال الذين دخلوا إليه أحياء يرزقون ولم يخرجوا منه أبداً .
لقد جاء بهم شيخ بن صغير أو إج انطواين الذي ذهب معهم إلى كهوف جبل الجن وأدخلهم الى هذا العالم المجهول بالنسبة لهم ليقرأوا النقَّوش بدون مشاعل النار ، حيث أشعل الأعشاب اليابسة ، التي في أرض الكهف وأخذ يدَّخن بغليونه الذي نقش عليه حرف الميم ، ويعود لقائد بعثة سابقة وهو الكابتن (موريسون) الذي أطلق النار على شيخ بن صغير فقطع له ثلاثة أصابع من يده ولكنه لم يمت ، فعاجله بالسيف على رأسه فقتله وأسقطه عن ظهر الجواد وسلبه متاعه ومنها هذا الغليون الثمين .
لقد جاء بهم إلى الكهف وأشعل الحشيش حَتىَّ تخدَّروا ثم حملهم وهم بين الصحو والإغماء إلى عاصمة الحجار الطوارقيَّة حيث قصر الملكة الحسناء (أنينا) وهنا تنتهي مهمته ويأخذ أجره منها وهكذا يأتي دائما بالرَّجال الذين يدخلون إلى قصر الموت ولا يخرجون .
كان إج انطواين هو نفسه شيخ بن صغير ، صاحب العمامة الزرقاء الباهتة والعينان الرماديتان . وهو يعرف كُلَّ شبر في الأرض ، وهو الذي مكر بهم وخدعهم وقادهم إلى الكهف المليء بنبات الحشيش اليابس ليخدرهم وينقلهم إلى البيت المحفور في الجبل حيث يتم إيقاظهم ، وتبدأ تفاصيل أخرى بعد أن يذهب عنهم تأثير الحشيش المخدر .
قصة عجيبة أحداثها غريبة ربما نكذَّبها وربما نصَّدقُ تفاصيلها المذهلة ولكنَّها عذبة رائعة تنـّشطُ الحواس وتدفعنا لمتابعة الأحداث حتى النهاية .
* * *
بقلم الشاعر والاعلامي احمد مزيد ابو ردن