كتب نجيب كيالي. الطفل الذي صار أبا لأمه

لآفاق حرة

الطفل الذي صار أباً لأمه
بقلم. نجيب كيَّالي

عندما يتحدث الأبناءُ عن حنان الأمهات، ودفئهن، وقلوبهن الخضراء التي يفوق جمالها جمالَ الحدائق لا أجد نفسي بين هؤلاء، وأمي لم تكن كأمهاتهم!
كان لي أمٌّ مريضةُ الجسم منهَكةُ الأعصاب تريد أن تُقدِّمَ لي قلبَها كبقية الأمهات، لكنَّ قلبَها سقط في مكان ما، ربما في دنيا المرض، ربما في دنيا الذهول.
كانت عيناها المتعبتان لا تكفان عن الاعتذار عن تقصيرها، هي تعلم أن مضخة الحنان عندها معطَّلة، وقد حاولتْ تشغيلَها كثيراً، لكنها لم تفلح!
غيرَ أنَّ أمي التي لم تمنحني الحنان منحتني حلماً رائعاً به، فكنتُ دائماً أتصوَّرها شُفيتْ، واندفعتْ تعطيني من دفقات حنانها ما يعوض جوعي إليه طيلةَ العمر، بل إنني رسمتُ لتبادل العاطفة بين الأم والولد صورةً أبهى بكثير من الصورة التي يعرفها الناس في الواقع، صورةً أخذتْ تتوالد في نفسي، وتكبر، وهكذا.. صار في داخلي فردوسُ محبة متخيَّل أعطتني إياه أمي.
كنتُ آوي إلى ذلك الفردوس كما يأوي المؤمن إلى جنته، فأحظى بالأمان أو بما فوق الأمان.
في ذلك الفردوس الداخلي أمٌّ أخرى، تشبه أمي، ولا تشبهها، ذراعاها أبداً حولي، وفمها مزهرٌ بالبسمات دوماً، وهي نشيطةٌ، ولها جسمٌ معافى، في ذلك الفردوس الداخلي غنيتُ لها:
(أميَ يا ملاكي
يا حبيَ الباقي إلى الأبدْ
ولم تزل يداكِ
أرجوحتي، ولم أزل ولدْ)
وحين صرتُ كبيراً أخذتْ علاقتي بأمي منعطفاً جديداً، فانتقلتُ من
طفلٍ حالم بالحنان إلى شاب يعي مشكلة أمه التي لم يُبعدِ المرضُ ظلَّهُ الثقيل عنها ولو يوماً واحداً! انقلبتِ الأدوارُ فجأةً انقلاباً جميلاً رائعاً، فصرتُ أنا أمنحها الحنان، وأسارع لضمها والعطفِ عليها وكأنها ابنتي! وأمسك المرضَ من ثيابه أشدُّه، وأشدُّه لأبعدهُ عنها. أبوَّتي لأمي منحتني سعادةً هائلة، ورغم حالتها التي وصفتُها فهي عندي أعظمُ الأمهات، وأحلاهن، ولطالما سمَّيتُها: قديسةَ الحزن، والمرض.
رحمها الله في مرقدها.
*