كلمةٌ سمعتُها أولَّ مرَّة، بالـمعنى الذي سأسوقُه لاحقًا، فـي دمشق من أحد علمائها البارزين قبلَ أكثر من 30 سنة. وما زلتُ أجدُها ماثلةً فـي مجرياتِ الحياة اليوميَّة، ومفسِّرةً استمرارَ أنماط السلوك الخاطئ والتعنُّت وبقاء كلِّ صاحب هوًى على هواه، ومعظمُنا أصحابُ أهواء لا يحكمُنا الـمنطق، ولا يقودنا الصواب، ولا تَعْنينا الحقيقة، بل إثبات ما يروق لنا ويَسْتطيبُه هَوانا.
التَّبْرير؟ نعم التَّبْريرُ هو الذي يسوِّغ من خلاله الشارِدون شُرودَهم، والـمخطئون أخطاءَهم، والسَّادِرون فـي ظلمتهم وتيههم وشهواتهم كُلَّ ذلك، بل ويُعجَبون بها، ويُنافِحون عنها. إنَّه سياسةُ الـمضيِّ فـي الانحراف عُنْدًا ومكابرة.
عندما ندرك أنَّ التَّبْريرَ سياسةٌ ونهج يُطبَع بهما سلوكُ الكثير من الأشخاص وتصرُّفاتهم نفهمَ السببَ القابِع وراءَ الـمقولة الرائجة «عندما خلقَ الله الأرزاقَ لم يعجب أحدٌ رزقُه، وعندما خلق العقولَ أُعجب كلّ شخصٍ بعقله». وبناءً على هذه السياسة، يتحوَّل منطقُ الشخص من الشيء ونقيضه، فهو يطوِّع الـمبرِّرات لتتَّفق مع رؤيته الـمتبدِّلة وآرائه الـمتضاربة. والتبريرُ يبدأ فـي كوامِن النفس قبلَ أن يظهرَ للعلن، فالشخصُ يقنع نفسَه بصَوابيَّة سلوكه وتصرُّفاته قبلَ أن يُقْدِمَ عليهما. ويقود ذلك إلى الـمصلحة والهوى، وليس العقل والـمنطق، ولذلك يَسْتجرّ ما يناسبه من مَعايير ومَقاييس ويتجاوز ما يخالف هواه ليخرجَ فـي نهاية الـمطاف بقناعةٍ مزيَّفة فـي قانون الحقّ والعدل، ولكنّه يرضى بها ويصعب كثيرًا بل يندر أن يتخلَّى عنها. وكلُّ ذلك هو سببُ الـمُشاكِسات والجِدال والعَداوات.
التطرُّفُ فـي التَّبْرير
وقد يتفاقم التبريرُ من الخفيف إلى الشديد إذا استطالُ أمدُه، وأصبح منهجًا معتمدًا عندَ الشخص الذي يتبنَّاه. وهنا يقلب الحقَّ باطلًا والباطلَ حقًّا، فيُخْرِج صاحبَه إلى آفاق جديدة من الخَطَل والانحراف والزَّيْغ. وهذا ما يفسِّر جُنوحَ بعض الناس جنوحًا غريبًا، فينتقلون من حالٍ معيَّنة إلى حالٍ مغايرة تمامًا تثير الاستغرابَ الشديد، وتلفت الانتباهَ بشكلٍ يصعب تفسيرُه للكثيرين.
قد يمتدُّ التَّبْريرُ إلى السياسات العامَّة والدول، ويكون سَببًا فـي الخراب والكوارث والانهيار. وهذا ما نراه على مرِّ الزمان، لاسيَّما فـي الدول التي تُسمَّى «نامية» أو «متأخِّرة» أو «متخلِّفة»، حيث يتبارى الـمُتَنفِّعون والخانِعون إلى تبرير الأخطاء الفادحة التي تُتَّخذ على أعلى الـمستويات، الأمر الذي يؤدِّي إلى التمادي فـي الخطأ ومجافاة العقل والإجحاف، فيصبح العقلاءُ أعداء ومتآمرين، والناصِحون خَونةً ومارقين.
لنجاةُ من التَّبْرير
لم يَنجُ من سياسة التَّبْرير إلَّا قلَّةٌ من العقلاء والصادقين الواعين لذَواتهم، الـمؤمنين بالإنصاف، الـمتمسِّكين بتلابيب الحقِّ وأهله. وكلَّما زاد الناجون من هذه الآفة الفتَّاكة، تَعزَّزت قوَّةُ الذات وتأثيرُها، وأَمِنَتِ الـمجتمعات، وصَلُحَتِ الأَحْوال، واستقامَتِ الأمور.
عواقبُ التَّبْرير
ومن عواقبِ التبرير أن يحولَ دون استزادة صاحبه من العلم والـمعرفة، فيكتفي بما لديه، ويجد الأعذارَ لهذا الاكتفاء من انشغال أو تَعالٍ أو غرور … إلخ.
ومن ذلك أن يجدَ الشخصُ فـي نفسِه ما يمنعه من مدح موقف شخص يخالفه النهج، لكنَّه يصيب فـي بعض مواقفه، لأنَّه حكم عليه بخطأ كل ما يأتـي به؛ والعكسُ صحيح؛ فعندما يروق له نهجُ شخص ما، ثم يخطئ فـي بعض أفكاره أو نتاجه أو أعماله، يبرِّر خطأه، بل ويدافع عنه.
لقد أفرزت هذه السياسةُ أغاليطَ كثيرة فـي مختلف صنوف الحياة، وربَّما يمتدُّ بها الأمرُ إلى عقد الـمقارنات الفاسدة واجتزاء الـمعطيات وتحيُّز الدِّراسات ليواكب كلُّ ذلك ما يجول فـي النفس ويكمن فـي الأهواء.
سياسةُ التَّبْرير، بهذا الـمَدْلول، آفةٌ خطيرة تُودِي بصاحبها إلى مُنْزَلقاتٍ خطيرة، فإذا تجذَّرت واستمرأ صاحبُها دربَها، لا ينصاع لحقّ ولا يَرْعوي عن باطل. وعندما تنتقل من الأفراد إلى الجماعات والـمُجْتَمعات تغدو أخطرَ فأخطر، فتحيل الأخضرَ الـمُمْرِع يابسًا، وتترك الروضَ الناضِر قاعًا صَفْصَفًا.