اللوحة الثانية
( السيد والتابع في بيت السيد. السيد يحمل صندوقا مليئا بالدنانير، يضعه أمام التابع الذي ينظر إليه منبهرا بينما يراقبه السيد بنظرات حاقدة، التابع يشيح بوجهه فجأة عن الصندوق)
التابع : (بضعف) لماذا تعذبني؟
السيد : (باستهزاء) هل حقا أعذبك؟
التابع : الإثم يكبلني إذ أحتكم في مال ليس لي حق فيه.
السيد : (بسخرية) حقا…
التابع : (مترددا، معذبا) أبعد هذا الصندوق من أمامي. (ينظر للصندوق برغبة ثم يشيح بوجهه معذّبا) لا أريد شيئا.
السيد : (بمرارة) لكني عاهدتك (مستدركا) كنت حينها ممغنطا بفعل الموت، والآن بعد أن أدركت فداحة ما فعلت فات الأوان… لن أتراجع كرامة لرجولتي.
التابع : دعني أحلك من عهدك.
السيد : (باستصغار) أنت … تحلني … فيقال حرر العبد سيده؟ (يضحك بسخرية. لحظة ثم يتابع بسخط) بل أجبرك على قبول عرضي لكن بشرط أن تختار أحد أمرين: تغرف من مالي على أن تظل تابعي، أما إذا اخترت الرحيل، لك هذا بعد أن تشتري حريتك بما وهبته لك من مال، فماذا تختار؟
(التابع يبدو حائرا، ينظر للصندوق تارة ، وإلى النافذة تارة أخرى)
السيد : هيا… قرر ماذا تريد؟
التابع : (حائرا، مترددا) الحرية (مستدركا بسرعة) لا … العبودية (متأملا) الحرية… الحرية حلم (مستدركا) وقيد لمن ألف العبودية… ماذا أصنع بها الآن؟ (حالما) لكنها الحرية… الحرية… وهناك في الكفة الأخرى المال… (بألم) والعبودية (لحظة ثم حائرا) فيما مضى كنت تابعك ببساطة، بلا شروط، حينئذ لم أكن أشعر بالحرج، لكن بقائي قربك الآن أصبح له طعم آخر… عبودية من نوع جديد (متأملا) عبودية ومال… أو حرية وفقر… آه… أنت تخيرني بين أمرين كلاهما يستقطبني في زاوية معينة، فأراني أختار هذا لأميل للآخر، اعفني يا سيدي وقرر أنت مصيري.
السيد : (بحزم) القرار لك وحدك.
التابع : فيما مضى كنت أشعر بسعادة غامرة عندما تسقط في يدي بضعة قروش، وأحتار كيف أتعامل معها… والآن أنت تضعني أمام هذا (يشير إلى الصندوق ويتأمله) فأشعر بالرهبة، والرغبة، والجلال، والحيرة، والطمع، والزهد، والعفة … والضياع… والرغبة مرة أخرى، الرغبة تلح يا سيدي، رغبة المحروم، والمحموم… والعبء، عبء الجاهل أمام هذه المتناقضات (يشيح بوجهه عن الصندوق ويبتعد عنه) أوه يا سيدي… لم لا نستأنف حياتنا كسابق عهدنا وكأن شيئا لم يكن، فتعفيني من نوازع نفسي التي تقودني إلى الضياع، والتيه، والـ… (يصمت فجأة)
السيد : بقاؤك قربي أصبح مشروطا الآن.
التابع : دعنا ننسى ذلك العهد المشؤوم، وننسى هذا الشرط اللعين، ونستأنف حياتنا ببساطة.
السيد : عرضك هذا يملؤني بالمقت والغضب.
التابع : لماذا؟
السيد : لأنك تظنني أتخلى عن عهدي فتلوكني الألسن.
التابع : حتى وإن عاهدتك على الكتمان؟
السيد : (بلؤم) كف عن مراوغتي، واختر أحد الخيارين في الحال.
(لحظات حرجة)
التابع : بقائي قربك أصبح مشروطا كما تقول، وبعدي عنك يعني أن أكون حرا، طليقا كعصفور يحط على غصن، يتنسم الهواء، وإن شعر بالضجر ارتحل إلى غصن آخر، المدى متسع أمامه (حالما) الحرية هي … هي الحرية (مترددا) لكن حريتي تختلف عن حرية العصفور، حريتي هي قيدي يا سيدي، قيد من عاش عمره رقيقا لا يعرف الحياة إلا بعبوديته (مستدركا) بل يعرفها، ويمارس حريته من خلال عشقه لها… لكني أشعر أمامها بالذعر، والحيرة، والضياع، أشعر أنها ستقذفني كريشة في مهب الريح لا تعرف مستقرها، إما أن تعلو فيكون الحظ حليفها أو أن تتهاوى فتدوسها الأرجل، وأخشى قسوة النعال… وبقائي قربك أصبح مشروطا وأي شرط (بفخامة) المال… المال يا سيدي (تبرق عيناه وينظر للصندوق برغبة) ومن لا يعشق المال والنعيم؟ ومع ذلك أريد الحرية… (مستدركا) الحرية الحلم، لا الواقع… أريدها حرية بلا تشرد، ولا ضياع، ولا فقر…
(السيد يضحك، التابع يستمر)
التابع : (بتحد) نعم … أريد الحرية، وأريد المال معها.
السيد : لكن هذا مستحيل.
التابع : أنت وضعتني أمام هذا الحلم.
السيد : أبدا … أنا خيرتك فقط إما المال، وإما الحرية.
التابع : حلمان إذن… هما حلمان جميلان، آسران، محيران.
السيد : (بمكر) ولكنك تعشق حريتك، فأي مال ستنعم به وأنت رقيق؟
التابع : وأي حرية سأعيشها بلا مال… إنها القيد ذاته… ولكني لا أخفيك أني أعشقها… أعشقها أتدري لماذا؟ (بفخامة) لأنها الحرية… ولأني أفتقدها.
السيد : (بمكر) أنت تملك أن تشتريها الآن.
التابع : أي أنك تشير علي أن أشتري حريتي مقابل هذا المال (يقف أمام الصندوق، ويتأمله برغبة ثم يتابع مستنكرا) هل أتخلى عن كل هذا المال مقابل حريتي يا سيدي؟ هل هذا ما تريده أنت؟
السيد : أنا لا أشير عليك، أنت الذي تختار بمحض إرادتك.
التابع : (محدقا بالصندوق، مرتبكا، محموما) بل هذا ما تتمناه أنت .(بتحد) أنت تتحايل علي لتتنصل من عهدك بأسلوب ذكي يجعلك أمام الناس عادلا… أنا فقط من يدرك الحقيقة.
السيد : ويحك… تهددني؟
التابع : لا يا سيدي… لا … أنا فقط أحلم بالمستحيل، أحلم بامتلاكي للحلمين النقيضين اللذين يتصارعان في داخلي (لحظة) ولكن آن الأوان لأفكر بالواقع … نعم الواقع الذي سيجعلني أنتصر عليهما.
السيد : كيف؟
التابع : سوف أرحل يا سيدي، نعم سوف أشتري حريتي مقابل هذا المال (يلتفت إلى الصندوق ويشيح بوجهه عنه بسرعة) لقد نجحت حيلتك. (يهم بمغادرة المكان)
السيد : (يصرخ) إنتظر.
التابع : (يقف) ماذا تريد أيضا؟ ألست أحقق رغبتك؟
السيد : هذه رغبتك أنت، عليك أن تدرك هذا قبل رحيلك.
التابع : (معذّبا) قد أتراجع عن قراري هذا لو ماطلتني، دعني أغادرك بسرعة، أتوسل إليك.
(يهم بالمغادرة)
السيد : (يقف في طريقه) بل إني أمنعك من الرحيل.
التابع : لماذا؟
السيد : أكره أن يقال راوغتك، وتحايلت عليك.
التابع : لن يحدث هذا ما دمت صامتا.
السيد : وكيف أضمن سكوتك؟
التابع : أعاهدك، وأقسم لك.
السيد : لو وافقتك أكون قد بعت حريتي لك، وهذا لن يكون أبدا.
التابع : (حائرا) كيف تحولت الأمور هكذا؟
السيد : هذا من جهة، ومن جهة أخرى حتى لو صمت أنت، سيظهر من يفكر بطريقتك ويؤول وينسج الحكايات، وأنا لن أحتمل هذا أبدا.
التابع : وما ذنبي أنا؟
السيد : ذنبك أنك تابعي.
التابع : لكني اشتريت حريتي منذ لحظات.
السيد : وأنا أرفض هذه الصفقة الآن.
التابع : لم يعد هذا من حقك.
السيد : (بحزم) أمكث معي إذن ريثما نجد حلا مناسبا، يحميني من الشائعات.
التابع : هذه ليست مشكلتي.
السيد : (بتحد) لتعلم إذن أن هذا المال لا يكفي لأن تحرر نفسك به.
التابع : (بدهشة) كيف؟ أليس هذا هو شرطك؟
السيد : بل عليك أن تدفع أيضا مقابل ايوائي لك طيلة أيام عمرك.
التابع : قضيتها في خدمتك، ألا يكفي هذا؟
السيد : (بتحد ووقاحة) لا … لا يكفي.
(يقفان مستنفرين ويتبادلان النظرات بتحد، بينما تدخل السيدة وهي شابة ثرية ورائعة الجمال)
السيدة : أنا (يلتفتان إليها، يفغر كل منهما فاه متفاجئين، بينما تتابع) أسدد دينه.
التابع : رحماك يا رب.
(السيد ينظر إليها مستغربا، تنظر إليه بتحد، يتمالك نفسه ثم ينفجر في ضحك ساخر، ترميه بكيس نقود وتمسك العبد من يده ويخرجان، بينما يكف السيد عن الضحك وينظر في إثرهما بذهول)
*****
يتبع