لم أبكِ يومها حين مات الحرف بين أناملي، لكني الآن وجدت غرفتي مبللة بدموع تغرق ملامح النصوص القديمة.. وها أنا ذي، منفية قسرا في زاوية جعلتني أقشر التجاعيد عن وجه الكتابة، وأطلق العنان للأنامل كي تدخل الذاكرة المهجورة بساق واحدة، ثم تتكئ على صدى الذكريات للتتخلص من الجثث العالقة بها.. عندما يغيب ضوء الكلمات، تتوهج اللآلئ المالحة حبرا، لهز جذع الحرف سرا، فيتدفق النص من شدقي رطبا نديا، نص يتمرد على ظله عنوة مع كل عودة ليل، وكلما اعتزلته، صحوت منهارة كأن أحرفي لعنة تصيب غفوتي؛ كي لا تتمكن أصابعي من نتف شيب الوجع عن قلبي.. قلب منهزم بالغياب، يحاول الإنتصار بالبكاء وحيداً.. لم أعد واثقة من قدرتي في تحمل ثقل الدواة، لأن رؤوس أصابعي المخنثة بالأفكار الشائكة، صارت خوذة مثقوبة تلبسها رؤوس أقلامي الجافة.. أقلام تطرق أبواب القلب بنصوص قُلمت أظافرها منذ ذنب إجهاض تدوينتي المخفية، ومن يومها وأنا حُبلى بثمانٍ وعشرين خطيئة حبرية.. سأحكي بصخب الصمت، تناهيد ألم تتسلل شوقا، لتفكّ حصار أشواقي في قلعة الغياب، الشاحبة الموحشة، وتميط عن الأسرار خمارا يغطي القلب، فيزيح النقاب عن “ون” أحاط الذكريات عزلا. وهنا سأدفن يأسي، ليستحيل حبا يقتات من أحضان وأضمومة، متدثرة بغطاء غزلته كلمات، كأنها طلاسم سحر، أو نقوش هيروغليفية، لا يفهمها إلا من كتبها، أو ذاك الذي نقشها على جدران القلب.. معشوقي الأبدي، يومها كتبتَ:”ونحن في مجاز الشوق نقف على ناصية اللقاء، يمسك كل منا يد الآخر بكل عنفوان العشاق، وحرارة جذوة الحب، صامتين لمشهد الرحيل المهيب لسنة كادت تعصف بنا نحو العدم.. وها نحن تفرقنا المسافات القميئة دون أن نتحرر من عناقنا الأبدي، ودون أن ينْبَّتَ تشابك الأيادي المتوضئة بعرق الوصال المقدس” وها نحن اليوم أيضا، تفرقنا المسافات ولا تفرقنا، وها أنا على أرصفة نطفة هبلنا، المدينة الكبيرة التي تقاسمنا فيها أشواقنا وبعضا من جنوننا، مدينة ثكلى تنوح فراغا، وهي تخلوا اليوم من شقاوتك، ودفء أنفاسك، ومن كل روح لأنك أبعد من أن تتحسسك أناملي.. اعلم أن غيابك هدني حد التعب، إلا أنني يا عمري الهارب باستطاعتي مواجهة حشد غيابك بالمجازفة مجازا، كأن أتيح لحواسي اقتناص عطرك العالق على شغاف القلب،أو أن أقلص المسافات بيننا عشقا، وأصنع من صبرنا على البعد أشواق حبيبين، كلما غابا عن بعضهما تفردا بلقاء، ينتهي بإنتصار قبلة وعناق.. أحاول عبثا أن أذوي داخل صمم الليل، لأنجوا من الذكريات التي تفض بكارة اللاشيء.. فقد خلقت بذاكرة مثقوبة لا تحتفظ إلا بوجوه كانت تكبر كورم في ذاكرة الوقت.. تعال يا عمري الهارب، نرمي بالورد في أحْضان ممْلَكتنا وضع كفك في كفي لتشتعل كل الأشواق.. تعال، فغيابك غصة يزداد حجمها كل يوم، غصة تدمي حنجرتي مع كل محاولة بلعها..