حرائــــق لا تنطفــــئ…
لم تكن علاقتي بأحمد علاقة رئيس بمرؤوسه، بل علاقة تعويضية، فقد رسمته ابناً لي، وهو أحبّ اللوحة، فاتّبع خطوطها ليتمه، قصدني ذات يوم آتياً من قريته الفقيرة في كل شيء، القاسية بعوزها، وصخورها، وثلوجها.
أشار لي بيده إلى مشرق الشمس، ليدلّني عليها، كانت تبعد بضعة كيلومترات عن المخفر الحراجيّ، وكان قد مشاها سيراً على قدميه بنصف حذاء، جعلني أقبله عاملاً لدينا دون تردد.
منذ ذلك اليوم وأحمد يكبر في العمل، ويكبر في قلبي، بتُّ أشعر بالمسؤولية تجاهه وتجاه أسرته التي يحمل أعباءها بسنواته السبع عشرة.
قضينا معاً ليالي طويلة في إطفاء الحرائق، أكلنا معا لفائف زعتر ملوثة بهباب الفحم، كان يعشق غابات السنديان ويتفانى في الدفاع عنها، لذلك استحقّ لعدة أعوام لقب بطل الإنتاج.
علّمته قيادة السيّارة، فأصبح سائقاً لسيّارتي ورفيقي في كل الدروب الوعرة والسالكة، في كل الليالي المقمرة والعاتمة.
كان أنف أحمد لا يخطئ، لذا أسميته زرقاء اليمامة شميّاً، حتى عندما اندلعت حرائق خفيّة لا مرئيّة، كان قد اكتشفها بفطرته، أسرَّ لي يوماً، عن محاولات البعض في قريته لتأليبه ضد الدولة، فسألته بابتسامة العارف للجواب:
وأنت ما رأيك؟
فيجيب ببراءة: لا علاقة لي بالدولة، لا أعرفها، أنت دولتي وأبي، ويضحك بطفولة.
جاءني يوماً يحدثني بمرارة، وخجل، عن دعوة خطيب الجامع له للجهاد، رأيت الخوف في عينيه، أحمد لم يخف يوماً من وحوش الغابات ولا من نيرانها.
بعد تلك المصارحة بدأ حاله يتغير، وهكذا افتقدت ضحكته، ثرثرته، حيويته،
كنت أحاول إطفاء الحرائق، لكنه لم يساعدني قلت له: لقد حملّوك عود ثقاب، بدلاً من خرطوم المياه.
لزم الصمت طويلاً، ثم اختفى مقفلاً هاتفه في وجهي، وكان عليّ إبلاغ الإدارة بتغيب أحمد عن العمل، واختفاء السيّارة.
* هل تتهمه؟
** لا، ماذا لو قتلوه واستولوا على السيارة؟
* لكن هناك من أكدّ بأنّه سلّمها للمسلحين في قريته، انتبه، إن لم تتهمه ستدفع غرامة السيّارة، وأنت تعرف بأنها باهظة الثمن.
** لا أعرف ظروفه، ما أعرفه أنّ أحمد لا يخون.
تمتم المحقق: لو لم تكونا مختلفين، لاتهمتك بالتواطؤ معه، في هذه الحرب كثر هم الخونة.
في أحد الصباحات الضبابية وصلت إلى موقع عملي متأخراً كان الهدوء مريباً، تغيّب العمال كلّهم، حاولت الاتصال بهم لكن لا مجيب، وصلتني رسالتان منه:
(خالتي أم النور تريد منك الذهاب إلى البيت فوراً)، (رُح بطريق الحرش).
لماذا طريق الحرش الأقرب لقريته، والأبعد عن الطريق العام، هل باعني أحمد؟ هل يحاول إنقاذي؟ بدأ صوت زوجتي يطن بأذني (من بداية الأحداث لم يعد أحمد كما كان، احذر منه، لابد أنهم سيغسلون دماغه، وقد بتّ عدوه)، كنت أكذّب ظنونها بنظرة لائمة مني، أحمد ابني ولن يخذلني؟
(أنت لم تصدقني ستبقى على نياتك الطيبة، ها هي السيّارة قد سرقت) آنها انشغل الجميع بسرقة السيّارة، وغضّوا النظر عن أحمد المسروق.
أحمد، هل أسلك درب الحرش؟ أم أنك نصبت لي كميناً هناك؟ اتجهت بنظري صوب قريته، أغمضت عيني وأخذت نفساً عميقاً جاءني صوته من أعماقي (لا وقت للتأمل انجُ بجلدك يا أبا النور)، كان أحمد وحده مخولاً بمناداتي بأبي النور.
سلكت درب الحرش كالمسرنم، لكنني استيقظت على حفيف الشجر، ورحت بحذر شديد أراقب الأدغال، أشتمُّ رائحة البشر مصدر الخطر الوحيد، لا يوجد أحد، أي صوت يوثب القلب، وأنا الأعزل إلا من بقايا إيماني المشوش بوفاء أحمد.
زاد توتري بمعركتي مع الوقت ضياع هاتفي، فأزيز الرصاص بدا قريباً ولا يمكنني الاستنجاد بأحد.
رافقني، بمسير الهروب الطويل، وجه أحمد الطفولي، وعيون بناتي، يرقصن في عرسه، يومها أقمن له حفلاً مميزاً، وكأنه شقيقهن، ويومها غمرتهن محبة أهل قريته، كنّ كزهرات توليب في حقول العوسج.
ها أنا أصل إلى الحرش، الطريق المفضي إلى النهر ترابي، مغطى بالأدغال، لكن يلزمني ساعات طويلة لأقطعه مع مخاطره، شممت رائحة بنزين، فاختبأت خلف صخرة، لا يوجد أحد، بل هناك كتلة سوداء مركونة على جذع شجرة، لأتبين انها درّاجة نارية أعرفها، أعرفها جيداً، أذكر فرحته باستلامها، فقد كانت أقصى أحلامه، والآن يا أحمد هل أفتى لك خطيب الجامع في قتلي وفخخت الدراجة؟ أم أنك ستطلق الرّصاص في ظهري؟ أعلم بأن عينيك لا تستطيع مواجهتي ولن تأتني طلقاتك في صدري ماذا لو أن الطريق الذي رسمته لي كان طريق نجاتي، ماذا لو أنك كفرت عن السيارة بدراجة، هي الأثمن، تفصلني عنها سبع خطوات ثقة، هل أخطوها؟.يممت بوجهي شطر قريته مغمضاً عينيّ ( انجُ بجلدك يا أبا النور، لا وقت للتأمّل) خطوت الخطوة الأولى، وكانت الأصعب، وكأن أثقالاً من حديد بكاحلي، لم ألبث أن تحررت منها تابعت بسرعة إلى الدراجة، أأدير عجلة الموت أم الحياة؟ عجلة الشّك أم اليقين؟
لا وقت للتثبت من العقوق والخذلان، حسمت أمري، فإن صحّت مخاوفي سيزيل الموت آلامها.
بيد مرتجفة فتلت المفتاح، لم يحدث ما توجّسته، سخونة خزان الوقود يشير إلى أن أحمد قريب جداً، همست له: أحمد، أنت هنا؟
برمشة عين مسحت المكان، لم أره، لكنني شعرت بنظراته تخترقني، هل كان صوتي مسموعاً أم بخلدي؟ لا أدري.
انطلقت في درب الغابات بسرعة هائلة، ذات الدرب التي استبسل أحمد يوماً في إطفاء حرائقها، عند ضفة النهر الشرقيّة تركت درّاجة النجاة، والقذائف تحفر الطريق من خلفي، اجتزت النهر مع غياب الشمس، لأتسلق الهضبة، يطالعني وجه المدينة، وهي تمضغ أمنها بهدوء، غير آبهة بجبال تتلظّى.
مشيت ساعات وساعات، بفردة حذاء واحدة، وبعطش شديد، والكثير الكثير من الأشواك والمرارة.
نقلتني إلى بيتي سيّارة عابرة ارتاب سائقها لحالتي المزرية، حيث زوجتي وبناتي الثلاث يبكينني، بعيون معلّقة على شاشة تلفاز ينقل حرائق المخفر الحراجيّ.
أكفهن تتلمس وجودي غير مصدقة، وتابعت دموع الابتهاج بالانهمار، بينما المذيعة مبتهجة لاستيلاء (المجاهدين) على رماد الغابات.
بتتبعي الملهوف والدقيق للأخبار، على مواقعهم في الأنترنت رأيت باب المخفر يحترق، والنار تأكل أضابير العمال، وعلى شجرة السنديان رأيت رأس أحمد معلقاً.
صديقة صديق