رائد أدب الأطفال (#يعقوب_الشاروني) في ذمة الله!

عن عمر بلغ (93) عاما قضاها في خدمة الطفولة والأدب الموجه للأطفال توفي اليوم في القاهرة الأديب الكبير، وكان سيحلُّ ضيفا وشخصيةً العام الثقافية المحتفى بها في معرض القاهرة الدولي للكتاب لهذا العام، ولكن الأجل وافاه قبل حلول موعد المعرض، ولا أذيع سرًا حين أرفق شهادتي التي ستصدر عنه في الكتاب المعدّ لتلك المناسبة؛ لكون ذلك هو الغاية ولا أجدُ كلمات أقدّمها بين يدي حزني عليه، والعزاء له وللأدب وللطفولة سوى هذه الكلمات عن الراحل غفر الله له بما قدَّم وألَّف. وإنا لله وإنا إليه راجعون!
=================
(الحكَّاء الرائد يعقوب الشاروني)

د. إبراهيم أبو طالب (شاعر وأكاديمي وكاتب أطفال من اليمن)

من الناس من تكونُ صورتُه كاتبًا أكبرُ من صورته متحدثًا ومحاضرًا والعكس، ومنهم من يُجيدُ رسمَ صورٍ خيالية، ولكنه لا يجيد رسم صور واقعية، ولكن من يكون حين يكتبُ هو في جودته حين يتحدث، وتصبحُ عوالمه وحكاياته حين تستمع إليه جميلةً تمامًا كما تقرأ له، فذلك من القليل النادر ومن الشخصيات المختلفة، ذلك هو شأن يعقوب الشاروني كاتبًا مدهشًا ومتحدثًا بارعًا.
كنتُ أقرأ في قصص المكتبة الخضراء- مثل غيري من أجيال الوطن العربي التي نَشأت عليها- فتدهشني قصصٌ جميلةٌ بعضها مترجم عن قصص عالمية شهيرة لها أثرها التربوي ونماذجها البشرية والقِيمية المتميزة، ومنها ما كنتُ أجدُ فيها ذاتي وأحسُّ أنها قريبة مني، من قَريتي ومجتمعي الريفي والمدني، ومن حياتي العربية البسيطة، وطموحاتي وخيالي بوصفي طفلًا عربيًّا لي احتياجاتي الخاصَّة التخييلية والنفسية والجمالية، ودون أن أعرف أو ألتفت للكاتب أو الرسَّام -كعادة أيِّ طفل يقرأ قصةً موجهةً إليه- لا تعنيه تلك الأسماء، لكنِّي حين كبرتُ واحتفظتِ الذاكرةُ بتلك الحكايات والعوالم، وراجعتُها عن وعي أدركتُ أنَّ أكثر ما كان يعجبني منها هي لكاتب عربي اسمه يعقوب الشاروني.
ثم حين اقتربتُ من عالم الطفولة والكتابة لها أو عنها، إذا بي أجد لهذا الاسم نفسِه دراسات وقراءات ومقالات كثيرة فيها من عمق التجربة ونضج القراءة ما فيها عن وعي وخبرة في طبيعة المدوّنة الإبداعية، والمرحلة العمرية، والاحتياجات التربوية والقِيَمة والجمالية، فإذا بي أطالعُ أبحاثًا ودراساتٍ قيمةً للكاتب نفسه. وبعد سنوات في مهرجان الشارقة القرائي للطفل، كان من حظي السعيد أن يكون ضيفه في ذلك العام 2013م الأستاذ يعقوب الشاروني، إنها الأقدار التي تحقِّق لنا بعض أحلامنا، ها هو ذا الإنسان الذي قرأتُ حروفَ قصصه طفلًا، وحلَّقتُ معها كبيرًا ألقاه أمامي وأحادثه.
ومن أجمل ما لاحظتُ أنَّ ذلك الكاتب شخصية ودودة جدًّا، ومحبَّة لكلِّ الناس، ومن أوّل لقاء تحسُّ أنك تعرفُه من زمن بعيد، يحدثك باهتمام، يقرأ بشغف، يناقشك بوعي وحرص فيما قرأ، وما أكثر ما قرأ، عرضتُ عليه ما سأقدِّمه في المحاضرة، فإذا به يناقشُني فيها نقاشَ عالمٍ عارفٍ مهتمٍ.
حضوره يملأ المكان بهجةً ووقارًا وعلمًا ورصانةً، إنه لا يعيش بشخصيتين كما قد نجد لدى بعض الكتَّاب الذين يذكّرونك بالمثل العربي “سماعك بالمُعيدي…”، بل هو هو حين تسمعه يحدثك بالجديد والمفيد كما فعل في تلك الندوة عن حديثه عن الكتابة للأطفال بالحواس الخمس، وكيف أنَّ الكِتابَ الآن أصبحَ يقرأ باللمس، وبالسماع، وبالنظر في الصناعة العالمية المتخصِّصة والجادّة في الأدب الموجّه للأطفال. وما أجمل أن تراه وتستمع إليه وهو يعرض تلك النماذج عرضًا محسوسًا بالدليل والكتب بين يديه، بل وينزل من المنصَّة ليجعل الحاضرين يتفحَّصوها ويقلبونها بين أيديهم. هنا يتجلَّى المعنى الحقيقي للشغف بما يهتمُّ به الإنسان، إنه لا يقول كلامًا نظريًّا أو مصطلحاتٍ جافةً وينهي دوره، لا بل هو يعيش ما يقول، ويقول ما يعيشُه، ويتفاعلُ مع جمهوره من الكبار والصغار على السَّواء، وهو فوق ذلك كله يؤمنُ بكل ما يقول، ويطبّقه، ويجرّبه، وينجزه.
كانت أوقاتنا معه والحديث إليه من أفضل الأوقات في المهرجان، كنّا نتحيّن أنا وصديقي الذي تعرفتُ عليه في ذلك الملتقى الكاتب العربي اللبناني د. طارق البكري، وكذا الأديب الباحث العراقي فاضل الكعبي، ونجلس معه خارج أوقات الندوات، ونطيل، فنجد لَّذة النصِّ التي تحدَّث عنها “رولان بارت” متمثِّلةً في حوارنا مع الشَّاروني.
في ذلك الملتقى خرجنا في رحلة إلى الصَّحراء، وهي ضمن ما يقيمُهُ الملتقى من أنشطة ترفيهية لضيوفه على هامش الفعاليات، ذهبنا إلى الصحراء على سيارة كبيرة مجهَّزة للحركات والاستعراضات الخاصة بالصحراء، ونحن كذلك والانفعال على أشدِّه حدَّثنا الأستاذ الشاروني عن قصته (معجزة في الصحراء) يحدثنا عنها ويستدعي من المكان في (الشارقة)، صحراء (سيوة) وعوالمها وحكايات الماء معها والأحداث التي ذُكرت في تلك الرواية الجميلة، التي وقفتُ بعد ذلك معها في دراسة أكاديمية محكَّمة نُشرت في إحدى المجلات الجامعية.
الشاروني كريم في أخلاقه كريم في عطائه، يحملُ قصَصَه وما تيسر له من كتبه ومؤلفاته فيهديها لمن يتفرَّس فيهم القراءة، أو يتوسَّم فيهم الجدَّ، وهو صادق فيما يكتب ومثابر فيما يقدِّم، وليس بدعًا فيمن هم من جِيله أو قبله بقليل، أمثال كبار كتَّاب مصر العربية، كمحفوظ والحكيم والعقاد وشلبي، والشاروني (يوسف) وغيرهم كثير ممن يجمعهم شَغفُ الكتابة والإخلاص لها، فلم يتوقّف يومًا واحدًا عن الكتابة أو القراءة أو الحديث عن مشروعه؛ وهكذا أمضى عقودا طويلة لا يحيد عن رسالته ولا يبتعد عن الطفولة وعالمها، يجمع حولها ويقرأ عنها ويكتب لها وفيها، ولهذا كوَّن مكتبةً عامرة، ذات عطاء وتنوّع متجدِّد. روافده التراث والحضارة العربية المصرية والإنسانية، ولهذا هو يقرأ كل جديد عن الطفولة، وكل ما كُتب أو يكتبُ عنها بأبرز لغاتها العالمية ليستفيد منها، ويغذِّي بها مشروعه العربي للأطفال العرب.
وهو فوق ذلك كلِّه ليس ناقلًا حرفيًّا، بل هو صاحب تجربة خاصّة وطريقة متميزة تهضم كلَّ ما يصلُ إليها كالنحلة وتنتج منه عسلًا خالصًا سائغًا للطفولة وللطفل العربي الذي لا شكَّ أنه ذكي بطبعه، حضاري بأصله، محبٌّ للقراءة والعلم والحياة بفطرته، وإن واجهته الصعوبات وأتعبته صُروف الحياة وظروفها، لكنه يقاوم، ويقاوم معه كتَّابُهُ أمثال الشَّاروني، لأنهم آمنوا بقدرات هذا الطفل، وبمستقبله وباحتياجه لأمثالهم لكي يرى الحياة بعيون الجمال والخيال، ويغذي روحه بما يكتبون شعرا وقصة ورواية وبحثا.
ولهذا فإن الشاروني وأمثاله ممن نهجوا هذا النهج يستحقون التكريم، ويستحقون المحبَّة والإجلال، وهم يرضون بأن يكون تكريمُهم في قراءة ما يكتبون، وجوائزهم في أن تصل أعمالُهم إلى كلِّ الأطفال وفي كل بلد وزمان، لأنَّ البراءةَ والطفولة جمهورُهم النقي، وهم غدا سيكبرون فتثمر أرواحُهم ودًّا ووردًا ومبادئ وقيمًا وجمالًا ينشِئونَ بها أطفالا آخرين لتستمرَّ الحكاية، ويتجدد العطاء. ولهذا فإنَّ كاتبَ الطفلِ كاتبٌ لا يقاس عمره بالسنوات، ولكنه يقاسُ بالأجيال التي تنشأ على حكاياته وتنمو، وتردِّد أناشيده وتشدو، فتتجدَّد بها ويتجدَّد الكاتب بعوالمها، ويتنقّل بين أرواحها روحًا محلِّقة جميلة، وعطاءً لا ينضب معينه، ولا يجفَّ نبعه.
هنيئًا للطفولة العربية بكاتبٍ كبيرٍ سَخَّر لها حياتَه وأعطاها كلَّ جهده ووقته واهتمامه وكتاباته، وهنيئًا له بأجيال كبرت وعاشت أحلامها مع حكاياته وعباراته، وواجهت واقعها حين كبرت بقيمه ومبادئه التي غَرَسَها بذورًا صادقة في أرواحها، فجنتها ثمارًا يانعة في حياتها عندما كبرت، فكان النموذج حاضرا في وعيها، والقيمة والتوجيه التربوي والجمالي متمثِّلا في لاوعيها ووعيها معًا.
هذا هو الخلود الحقيقي، وتلك هي الحياة الكثيرة والكبيرة التي امتلكها كاتبُ الطفولة، وجسَّدها الأديب الكبير (يعقوب الشاروني).

د ابراهيم أبو طالب
اليمن

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!