آفاق حرة
صَدَرَ حديثاً عن دار ديار للنشر والتوزيع في تونس رواية “في عشّ السرطان” للشاعرة و الكاتبة التونسيّة “نجاة العدواني” ، في 208 صفحة، قياس 21/15سم، وبغلاف للفنّان السوري “رامي شعبو”.
توجد الرواية في العاصمة التونسيّة بمكتبة “الكتاب” – شارع الحبيب بورقيبة، مكتبة “المعرفة”-ساحة برشلونة، مكتبة “بوسلامة”-باب بحر، مكتبة “العيون الصافية”- خلف وزارة المرأة، المكتبة الشاملة- شارع فلسطين. وفي أريانة بمكتبة “العيون الصافية” – المنزه السادس.
تقع رواية “في عشّ السرطان” في واحدٍ وعشرين فصلا ، نقتطف مِن أجوائها :
” جلست سالمة في الشرفة منتظرة قدوم علياء التي هاتفتها قبل ربع ساعة من هاتف عموميّ لتخبرها انّها قادمة إليها، مُتفكّرة في سبب زيارتها المفاجئة و في سبب استعمالها لهاتف عموميّ و في تهدّج صوتها الذي فقد رنّته المألوفة و عيناها تراقبان سلحفاة لم يكن وجودها يلفت انتباهها تتحرّك حذرة مبتعدة عن أيّ شيء يمكن أن يقلبها على ظهرها، هي أيضا باتت تخشى أن تنقلب على ظهرها و لا تنهض بعد أن أصبح جسمها يخذلها فتنكسر تحت ثقله و ضعفه..كلّما حاولت النّهوض أو المشي تفكّر في ما سيحصل قبل أن يحصل، كلّ خطوة تدفعها للسّقوط و كلّ نسمة تُفقِد قدميها توازنهما، ما أفظع أن يصبح هدف الانسان أن يسير من غير أن يسقط، أن يتعلّم المشي كرضيع يصفّق له أهله عندما ينجح في الحفاظ على توازنه ، لم تكن سالمة يوما مؤمنة بالمعجزات لكنّها أصبحت تراها في تفاصيل صغيرة، كأن تعود إلى وضعها السّابق بعد كلّ مرّة تغادر فيها مكانها من غير أن تقع، أصبحت تجلس لوقت طويل كتمثال تراقب أشياء لم يكن وجودها يلفت انتباهها متعثّرة بظلال حمراء قاتمة تطول و تقصر مثل سعلاة القايلة التي كانت تخشاها عندما كانت طفلة، هاهي تدور حولها و تمدّ لها لسانها كاشفة عن رجلي ماعز يتكوّم شعره تحت لسانها ..اقتربت السّلحفاة من الحائط خابطة قوقعتها بصلابته و لم تزل سالمة معلّقة على جسمها يجاهد بين حجرين… أرادت أن تدخّن سيجارتها واقفة و تستمتع ببريق البحيرة تحت أشعّة الشمس فطرق ركبتيها ألم شديد سمّرها مكانها ..أصبح العاديّ عجيبا و السّهل بالنّسبة للآخرين صعبا مستحيلا..تمنّت لو بإمكان الأشياء ان تتحقّق بمفردها من غير أن يكلّفها ذلك جهدا..تأخّرت علياء و ملأت الشمس الشرفة فغادرتها قاصدة غرفة المكتب البعيدة عن حرارة الشمس و عن ضجيج الطريق السيّارة ضاحكة من سهولة استسلامها للمرض، أن تكون لأوّل مرّة عبدة تطيع أمر سجّانها، أن تنام وسط القفص مبتسمة من غير أن تقاوم القضبان أو تتذمّر مِن ثِقَلِ جناحيها و تشعر انّها ليست حرّة..هدوء يطبق على المكان يحبط المدارك و يخدّرها..تشعر و تريد و لكنّها لا تقوى على تنفيذ ما تريد، ذلك الشعور القاتل بالاختلاف، قد لا يكون ظاهرا لها هي التي لم تزل ترى قلبها و عقلها يقومان بوظيفتهما مثل قبل ولكن الآخر يراها مختلفة لمجرّد انّها تغيّرت قليلا، فقدت بعض الوزن و أصبحت بطيئة فيحيطها بشفقة تكرهها…رنين جرس الباب يعيد سالمة إلى الواقع فتصحو ممّا كانت فيه و تتوجّه لفتحه..تدخل علياء مثل رصاصة مِن غير أن تقبّل سالمة، كانت شاحبة، لا تضع على وجهها مساحيقَ و شعرها منفوشا منفلتا فوق كتفيها، جلست على أوّل كرسيّ اعترضها ملتفتة حولها و كان بيدها ظرف أصفر كبير ..قبل أن تسألها سالمة عن حالها و عن سبب ما هي فيه..قالت لها “انظري من الشباك مِن غير أن تقتربي كثيرا، إنّهم هناك، لقد حاولت مراوغتهم ولكنّهم نجحوا في إيجادي، إنّهم يتعقّبونني، أنا مراقَبَة يا سالمة و قد يقتلونني، لا تقاطعيني ..فقط استمعي إلى ما سأقوله لك …في هذا الظرف وثائق خطيرة تدين الوزير و جماعته..إنّهم يريدون الحصول عليها و بعد ذلك يتخلّصون منّي …طالما انّ هذه الأوراق في مأمن لا أعتقد انّهم سيفعلون شيئا و إذا حدث و أصابني مكروه لا تفرّطي فيها، اخفيها في مكان آمن..عِديني انّك ستفعلين، أنا لا أثق بأحد غيرك، عديني ..”. نزل ما قالته علياء على سالمة نزول الصّاعقة و ضاعف كربها ولكنّها استجمعت ما بقي لديها من طاقة و أجابت علياء بانّها ستنفّذ ما طلبته منها راجية منها أن تكون حذرة و تتوارى في مكان آمن إلى أن تجد حلاّ ..تضع علياء المغلّف على الطّاولة و تنهض، تقبّل سالمة و تغادر و تبقى صورتها المشوّشة تنتفض في مقلتيها… لم تلمس الظّرف و توجّهت إلى المطبخ لتسكب لنفسها كأس ويسكي و تعود إلى مكتبها، تطلّ من وراء السّتارة، رغم مغادرة سيارة علياء للرصيف المقابل للعمارة لم تزل تلك السيارة التي وصفتها لها تربض هناك خلف شجرة الكلبتيس الكبيرة ..هل هي في حاجة إلى مزيد من المتاعب؟ تتخلّص مِن شَعرها المستعار تجلس على كرسيّها المريح و تغمض عينيها مسافرة في أثر علياء، تلك المرأة القويّة التي تكره مضغ أحزانها فكانت تبصقها مجتمعة في فم ريح تنحني لضحكتها، لم تأتها يوما شاكية و لم تُبهت أحمر شفاهها المصائب المكدّسة فوق رأسها، كانت راضية بما اختارته موارية ألمها بابتسامة برّاقة تحسدها عليها كثيرات فَلِمَ قرّرت الآن أن تمزّق قناعها الضّاحك و تستحمّ من دنس سنين طويلة بدمها السّاخن ..كانت تبدو لها قادرة على الوصول إلى ما تريد مِن غير مشقّة، لقد كانت بطلة خارقة و سالمة تعلّمت في صغرها من أشرطة الصّور المتحرّكة و من أفلام الخيال، انّ الأبطال لا يموتون حتّى وان انكسروا و احترقوا فإنّهم يبرزون للذين كانوا ينتظرون عودتهم بقلوب مرتجفة مِن وراء ألسنة الجحيم أو مِن قاع هوّة سحيقة أكثر قوّة ممّا كانوا عليه مِن غير أن يتركوا لهم فرصة أن يتساءلوا حتّى متى سيستمرّون؟ وهل حقّا هم أنفسهم الذين يعودون لهم أم هي أرواحهم مرتدية أجساما جديدة توهمهم بأنّ الحياة باقية …لقد كانت الطفلة سالمة تتألّم وهي ترى شمشون الجبّار يغرق و سط بئر عميقة و الماء يمتصّ جسمه ساحبا إيّاه إلى القاع، و يزداد ألمها عندما تراه يواجه الموت مرارا، كلّما كسر حاجزا حديديّا نبت أمامه آخر أكثر صلابة و تنهمر دموعها عندما يجد نفسه أمام موت أكثر إذلالا مِن كلّ موت سابق، موت يجعله يزحف على ركبتيه مقيّدا بأغلال العبوديّة.. و لكنّه في نهاية الأمر ينجو لأنّ الأبطال لا يموتون مهما انكسروا و مهما أُهينوا بل إنّ انكسارا تهم و زحفَهم على ركبهم إلى ما يسمّى وفاة يهبهم حصانة ضدّ الموت..المعاناة هي التحوّل و المُستَضعفون في حاجة إلى ذلك أكثر مِن غيرهم..و علياء بطلة و مستضعَفَة في آن ..لذلك ستجري على ركبتيها إلى حياة جديدة …شربت سالمة كثيرا و دخّنت علبة سجائر كاملة و قد كان جوّالها مغلقا ..و هاتف البيت رنّ مرّات عديدة ولم ترفعه ..و مع ذلك فهي تعلم من كان يطلبها قبل أن تفتح علبة التسجيل..نبيل الذي تركته يتقلّب على نار حارقة و رحلت.