ثمة تقاربٌ للحدود بين العالم العربي في جناحه المغاربي وإيطاليا، وبالمقابل ثمة تباعد بين الثقافتين العربية والإيطالية. ليس المراد بتباعد الثقافتين اختلاف الرؤى وتباين المفاهيم، بل ندرة التواصل وقلّة التثاقف سواء عبر الترجمة أو عبر الإلمام بالثقافة الأخرى من كلا الجانبين. فلا تتجاوز حصيلة الترجمات من الجانبين، العربي والإيطالي، الألف عمل في كافة المجالات، على مدى تاريخ اللغتين العربية والإيطالية، بناءً على دراسة إحصائية أُعدّت في جامعة روما. فالاستشراق الإيطالي المعاصر المعني بالعالم العربي يشكو وهنًا، حتى أنه بالكاد يقدر على عرض الثقافة العربيةضمن رؤى واقعية وموضوعية، داخل وسط غربي مشحون؛ وبالمثل لا يبالي العرب كثيرا بما تنتجه إيطاليا ثقافيا رغم الثراء والتنوع في ذلك الوسط، مع أن أقسام تدريس اللغة الإيطالية أضحت موجودة في جملة من الجامعات العربية، بَيْد أن كثيرامن مناهجها عقيممن حيث الإلمام بالزخم الثقافي في إيطاليا. لتنتشر على الضفّتين أحكام جاهزة وقوالب مغرضة باتت تعمّق الهوة بين العالمين.
الكتاب الحالي الذي نعرضه “غرامشي في العالم العربي” هو محاولة متواضعة للقطع مع ذلك الصمت الثقافي،الحائل دون التواصل العربي الإيطالي، سيما على مستوى الأفكار والمفاهيم والرؤى. وهو يتمحور بالأساس حول مدى حضور طروحاتالمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937) ورؤاه بين المثقّفين العرب. سواء من خلال تتبّع استيعاب مقولاتهفي الدراسات والأبحاث التي تناولت المفكر الإيطالي من قِبل الكتّاب العرب، أو كذلك برصد ترجمات أعماله وما خلّفته من أثر.
فلا شكّ أن غرامشي من بين قلّة من الكتّابالإيطاليين ممّن نالهم حظ كبير، دراسةًومتابعةً،في الداخل والخارج. وفي نطاق رصد الاهتمام بهذا المفكر، يورد أنجيلو دورسي في كتاب حديث الصدور بعنوان: “غرامشيات. دراسات حول أنطونيو غرامشي“(2016)، أن غرامشي هو واحد من بين 250 كاتباالأوفر حظافي العالم قراءةً وترجمةً ودراسةً. حيث كُتب عنه أكثر من 20.000 نصّ، في أربعين لغة، مما بوّأه الصدارة في قائمة الكتّاب الإيطاليين الأكثررواجا في الخارج منذ منتصف القرن الفائت، قبل دانتي أليغييري، وأومبرتو إيكو، وألبرتو مورافيا،وبيار باولو بازوليني وآخرين.
توزّعَ الكِتاب إلى قسمين رئيسين، انشغل القسم الأول بتتبّع حضور غرامشي في الثقافة العربية، وقد أعدّ هذا القسم ثلاثة من الباحثين الجامعيين الإيطاليين يتعاون جميعهم مع “مؤسسة غرامشي” الإيطالية المعنية بتراث هذا المفكر، وهم جوسيبي فاكا وباتريسيا ماندوكي وأليساندرا ماركي؛ واهتمّ القسم الثاني بترجمة مقتطفات من الدراسات والأبحاث العربية الصادرة حول غرامشي،نذكر منها أبحاثا للطاهر لبيب وعلي الكنز وعبدالقادر الزغل وفيصل دراج وحسن ناظم وناديا رمسيس فرح وفريال غزول وياسر منيف وآخرين، تولى مراجعتها الأستاذ الفلسطينيالمقيم بروما وسيم دهمش.
منذ مطلع كتاب “غرامشي في العالم العربي” طُرح سؤالٌ محوري تمثّلَ فيلماذا الحديث عن غرامشي؟ أو تحديدا لماذا جرى رصد حضور غرامشي دون غيره من المثقّفين الإيطاليين؟ ويبرّر معدّو الكتاب انجذاب الكتّاب العرب إلى مقولات غرامشي بعاملين أساسيين:
- ترافقُظهور فكر غرامشي في الساحة الثقافية العربية في مطلع السبعينيات، مع فترة شهدت فيها البلاد العربية حروبا مع إسرائيل وتململات مجتمعية عميقة، مما خلق تذبذبا في الأوساط الثقافية العربية وأفرز بحثًا عن بدائل من خارج القومية بوجهيها الناصريوالبعثي وأطروحاتهما الاشتراكية العقدية (ص: 37).
- ثراء أدواتغرامشي المعرفية بشأن مواضيع مثل الهيمنة، والخضوع، والمجتمع المدني، والكتلة التاريخية، والمثقف العضوي، والمثقف التقليدي، والمثقف النيوأكاديمي، والمثقف الجمعي، وحرب المواقع، والثورة المنقوصة، والثورة السلبية وما شابهها، وهي مفاهيمغرامشية قريبةمن قضايا العالم العربي. ومن هذا الباب نجد شبهًا للمسائلالاجتماعية الثقافية المطروحة مع غرامشي بشأن الواقع الإيطالي في مطلع القرن الفائت، مع ما يعيشه العالم العربي في الراهن المعاصر.فقد كان مزْجُ غرامشي بين الفعل الملتزم والتحليل الثقافي عاملا قويا في إعطاء أطروحاته جاذبية ورواجا. إذ لدى هذا المفكر قدرة، كما يرسم إدوارد سعيد ملامحَه، على استخلاص نظرة شاملة بشأن مرحلة تاريخية محددة،تشبه بوجهٍ ما “جغرافي” السياسة والثقافة.
اعتمد المؤلَّف الإيطالي على أعمال ملتَقيين أُقيمافي البلاد العربية، انعقد الأول في تونس بين الرابع والعشرين والسادس والعشرين من شهر فبراير سنة 1989. وقد تابعت “مؤسسة غرامشي” المعنية بإرث غرامشي السياسي والثقافي الأنشطةَ حينها وشاركت فيها. تلاهمؤتمر ثانٍحول غرامشي انعقد في القاهرة بين الرابع والعشرين والسادس والعشرينمن شهر نوفمبر من العام نفسه بإشراف أستاذة الأدب الفرنسي أمينة رشيد. كانت أغلب مداخلات الأطراف المشاركةفي الملتقيين المذكورين من مصر وتونس، ودارت فيهما أسئلة حامت حول راهنية غرامشي؟ تميّز عرض الكاتب فيصل دراج في اللقاء الثاني حينها بالإثارة والجرأة،من خلال اعتباره أن مفهوم المثقّف العضوي بالمفهوم الغرامشي ينطبق عل “المثقف الديني” بوصفه الأقرب والأقدر على ولوج نسيج الثقافة الشعبية المهيمنة في البلدان العربية، بما يفوق كثيرا ما يمكن أن يأتيه المثقف العربي اللائكي أو المتغرّب (ص: 119).
ترصد باتريسيا ماندوكي بدايات التعرّف على غرامشي قائلةً: كان لترجمة كتاب “فكر غرامشي السياسي” لـجان مارك بيوتي من الفرنسية سنة 1975، وكذلك كتاب “مختارات من دفاتر السجن” من الإنجليزية إلى العربية سنة 1994، وهو مؤلّفٌ من إعداد كوينتن هوائيري وجوفري نويل سميث الذي سبق أن صدر سنة 1971، دورٌكبير في التعريف بغرامشي وبمقولاته، بما وفّراه من إلماحة عامة عن هذا المفكّر الإيطالي نظرا لقلّة الملمّين العرب باللغة الإيطالية. نشير أنعفيف الرزاز كان أوّل من ترجم نصّا لغرامشي من الإيطالية وهو مؤلف “المجالس العمّالية” صدر عن دار الطليعة سنة 1975. في الواقع يعود البرنامج الأوّل لترجمة أعمال غرامشي إلى العربية إلى مطلع العام 1973 لما تولى فرانكو فيريمهمّة تسيير “مؤسسة غرامشي”. حينها أوكلت المؤسسة الإيطالية للكاتب المصرياليساري أنور عبدالملك تولّيمهمةترجمة “أعمال مختارةلأنطونيو غرامشي” من الفرنسية،تعتَمد على ترجمة “دار غاليمار”الباريسية وبقصد أن تُنشر في “دار الطليعة” اللبنانية. تمّ الاتفاق حينها على نشر ثلاثة أجزاء: يضمُّالأول منها أعمال غرامشي قبل اعتقاله من طرف السلطات الفاشية، مع تجنّب الكتابات المغرَقة في الشأن المحلّي الإيطالي، ويضمّ الثّاني مختارات من “الكراسات”، والثالث يُخصَّص لـ”دفاتر السجن”. وبوجه عامشهدت تلك الفترة تطوّراللتوجهات الاشتراكية في إيطاليا وتحمسا للقضية الفلسطينية، وهو ما جعل الحماس فياضا لترويج مقولات غرامشي.
تقولأليساندرا ماركيإحدى المساهمات في المؤلَّف الجماعي “غرامشي في العالم العربي“، إن إنجاز عمل يتعلّق بأثر غرامشي في المفكرين العرب ما كان عملا يسيرا، لما تطلّبه من مسح وترجمة في الآن نفسه، لكنّه كان عملا لازما وعاجلا. كما تشير ماركي إلى أن الأعمال المترجَمة عن غرامشي لا تتجاوز عدد أصابع اليد مع ذلك ثمة انبهار بمقولات الرجل. فمثلا ليس هناك ترجمة كاملة لحدّ اليوم لرسائل غرامشي. كما تبرز الباحثة أن الاتصال المبكر بنصّ غرامشي قد أتى غالبا مع كتّاب عرب يعيشون في المهجر أو يقرؤون بلغة أجنبية (دائما عبر نصوص مترجمة إلى الإنجليزية) كما الشأن مع المصري أنور عبدالملك (توفي في باريس 2012)؛ والفلسطيني هشام شرابي (توفي في بيروت 2005)؛ أوكذلك مع المغربي عبدالله العروي (من مواليد أزمور/المغرب 1933). وهم كتّاب متشابهو الملامح من حيث الكلف بغرامشي وأطروحاته (ص: 137).
لكن تبقى ملاحظة عن العمل متمثّلة في أن الكتاب يحتفي بمساهمة كتّاب عرب يروّجون لمقولات غرامشي في غياب التعريج على الاستيعابالنقدي لفكر غرامشي. بما يطرح سؤاللماذا ينجذب كثيرمن الكتّاب العرب إلى الكتابات الإيديولوجية ويفوتون في الكتابات العلمية التي صنعت التحولات الثقافية الكبرى في الغرب؟ لقد أثبتت السنين أن استفادة الثقافة العربيةمن الفكر الغربيبوجهيه العلمي والمعرفي ضئيلة. وعلى سبيل الذكر لو تتبّعنا الكتابات العربية التي هامتبغرامشي لن نعثر فيها على نضج ورويّة، بل هناك ترويجٌ مجانيّ لمقولات الرجل مع غياب التقييم الحقيقي لأفكاره ورؤاه، وإلا ما معنى أن تروج الغرامشية قبل استيعاب مقولات غرامشي أو الإلمام بها، فليس هناك ترجمات بما يكفي، وليس هناك دراسات عنه وافرة. لقد روّج الأوائل بانبهار ولحق بهم الأتباع بانقياد. وهو في الواقع سلوك شائعغالبا ما يتعامل به الكاتب العربي مع المفكرين الغربيين. والصواب هو الخروج من هذا التقديس ووزن الأمور بميزان العقل حتى نتفادى التهافت المعرفي.
فعلى ما يعرضه كتاب “غرامشي في العالم العربي” يتميزالكتّاب العرب المختارون كنماذج في هذا الكتاب بالاتباع والولاء لمقولات غرامشي، وتغيب عنهم الرؤية النقدية، سيما أن أغلبهم من المثقفين اليساريين العَقَديين من أتباع اليسار العربي (انظر جوسيبي فاكا، ص: 210). وتقريبا كلّهم لا يقرؤون بالإيطالية، وجاء اطلاعهم على غرامشي من خلال كتابات فرنسية أوإنجليزية وغابت عنهممراجعات مقولات غرامشيالمتوفرة في اللغة الإيطالية. لعلّ ذلك ما حدابالمفكرالإيطالي نوربارتو بوبيو(1909-2004)، للدعوة إلى إخراج غرامشي من حضن اليسار وتحريره من سطوة التعامل القداسي للحفاظ على ما تبقّى من غرامشي، حيث لم تظهر مراجعات جادة لفكرهسوى من خارج دائرة الأتباع، على غرار ما قام به الإيطاليان جوسيبي تامبورّانووفرانكو لوبيبارو.
من جانب آخر، نلاحظ في الكتابات العربية غياب التطرق لنظرة غرامشي للدين، أو حشرها ضمن منظور يساري غائم. لعلّ ما حال دون ذلك أن نظرة غرامشي قد وردت متناثرة في آثاره، وقد عُنيت أساسا بالكاثوليكية كإيديولوجيَا وبالكنيسة كجهاز إيديولوجي. فقد مثّلت المسيحية البدئية في منظور غرامشي حركةً ثورية ونمطًا لتعقّل العالم، ثم تحوّلت مع كاثوليكية “الإصلاح المضاد” إلى حاجز أمام التطلّعات التقدّمية. فليست رؤية غرامشي للمسيحية واردة ضمن نسق مجرد لاتاريخي، على غرار رؤية قرينه ماركس، ولكن مختبَرة ضمن سياق تَطوّرِها الخاص وبحسب النسق التاريخي السوسيولوجي. صحيح أن غرامشي ينطلق من نقطة تضاد مع الميتافيزيقيا،مع ذلك لم يجحد ما للدين من دور في التاريخ البشري. كما أن غرامشي يبدي انتقاداتللكنيسة، ولكنّهيتوجّه إلى نمط تاريخي محدّد من الكاثوليكية، ويميّز بين التديّن الفائض من المشاعر والمؤسسة الدينية التي تسعى إلى استغلال تلك المشاعر.
على العموم ثمة مثْلَنة لغرامشي حوّلته إلى وثن، الأمر الذي حجبعن كثيرين مواقفه الخطيرة تجاه الديمقراطية مثلا. فقد كتبغرامشي في صحيفة “أفانتي” لشهر فبراير 1916 “الديمقراطية هي عدونا اللدود، الذي نستعدّ معه للمنازلة الدائمة… لأن الديمقراطيةهي الأداة الرخوة في العربة التي تخفف من ثقل الحمولة على العجلات وتمنع الصدمات التي تسبب الانقلاب”، لذلك الديمقراطية هي زيفٌ ومصدر وَهْم، مفضلا الليبرالية لأنها برجوازية.وفي مؤلف لأورسيني بعنوان: “غرامشي وتُوراتي“، يخلص الكاتب إلى أن غرامشي كان “معلّما بارزا لبيداغوجيا اللاتسامح في القرن الماضي” حيث ذهب إلى أنهالأب الروحيلتنظيم “الألوية الحمراء”، التنظيم المحظور إلى اليوم في إيطاليا.
خلال سنوات قليلة انعقدتبالتعاون بين”جامعة جندوبة”التونسيةو”مؤسسة روزا لوكسمبورغ” ندوة بتونس العاصمة تحت عنوان “العودة إلى غرامشي”. منذ إطلالة حضور غرامشي في الأدبياتالعربيةمرّ زهاء الأربعة عقود على اكتشاف الرجل والخطاب لم يتعقّل ولم ينضج،فلا زال الكلفُ بغرامشي يفتقر إلى استيعاب نقدي لمقولاته، ذلك ما يرون على الساحة.
في منتهى هذا العرضنشير إلى نقيصة بارزة في الكتاب. ففي مؤلَّف يطمح ليكون مصدرا ومرجعا في إيطاليا عن حضور غرامشي في الثقافة العربية، هناك غياب لجردٍ بالأعمال والدراسات والمقالات والترجمات العربية المعنية بغرامشي، سيما وقد تجنّد للعمل فريق من الباحثين والمترجمين.
الكتاب: غرامشي في العالم العربي.
مؤلف جماعي من إعداد: باتريسيا ماندوكي – أليساندرا ماركي – جوسيبي فاكا.
الناشر: إيل مولينو (بولونيا-إيطاليا) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2019.
عدد الصفحات: 337 ص.
أكاديمي تونسي مقيم في إيطاليا