بداية رواية التغريبة السورية
لأنور الخالد
لم يرَ النور لأكثر من سبع سنوات قضاها في ذلك المعتقل، فكيف له أن يتذكر الشمس و ضوئها و يشعر بدفئها. لقد نساها كما نسي الكثير من ماضيه.
دفع جسده إلى الأعلى بما تبقى له من قوة فشعر باضطراب السنين التي عجزت ان تكسر ظهره، وتمسك بعكاز الأمل من غير خوف ولا ضجر.
لو ما كنا نحمل من خصائص الجبن لما ترددت صيحات المظلومين في قلوبنا، و دقت نبضاتها على أوتار ارواحنا في سكون العذاب المطبق.
يتأوه المسكين متألماً كأنه يرجع صوت وجع تلقاه من سوط الجلاد . أو من لهيب ألفاظ ذلك السجان. يتحرك الحزن بداخله ودموعه تمحي آثار كل إهانةونكران لحياة البشر.
يجمل كبريائه فيمسح دمعته و يسير بغير هدى إلى أين لا يعرف، فقد هجرته المدينة الذي كان يسكنها يذهب لآخر الطريق ومن ثم يعود إلى ذاك المكان الذي رموه فيه. عندما سقطت شمس المغيب خلف الأفق خلت المدينة و شوارعها من المارة.
الحيرة اصابته بذهول وهواء المدينة يكاد يخنقه ، ومع ذلك تسمو تنهداته إلى ما فوق الدخان الأسود لتنعقد كلماته أسمعها بوضوح أين منزلي أين عائلتي أين هم أهلي كيف السبيل للوصول إليهم .
يتعالى أذان المغرب يقترب من المسجد بخطى متباطئة و كأنه طفل تعلم اليوم خطواته الأولى، بدأت السماء تخيط ثوبها الأسود مرصعة بقطع ذهبية و ياقوتة البدر تتوسطه. يغمرضوؤه بعض أمل…
أيها الشيخ المسكين . من أنت؟ وهل لك أن تعلم ماهي حالتك؟ و هل خلقت لأجل هذا؟ هل لي أن اعرف لما رمتك الحياة من صهوتها ؟ ولما أنت مهموم مرمي في قارعة الطريق على رصيف تناثرت أحجاره. لا يستر عورتك إلا بقايا ثوب رث مزقته عثرات الزمن. و كأن ما أصابك بقايا من عقاب على خطيئه آدم الأولى. عندما امتدت يد الفضول إلى شجرة المعرفة فشاء ربك أن يكون حبه لنفسه ولمن أحب سبباً لمعاناتك و معاناة البشر في كل زمان وفي كل أدوار حياتهم .
ولكن إذا كانت إرادة الله شاءت أن تحمل كل هذا العقاب على ظهرك. أيها الإنسان الضعيف . فهل كنت تعلم السر في ذلك؟ إنما هو لكي ترى نفسك في مرآة نفس أخرى.و لكي تسمع ذاك الأنين الذي يصدر من غيرك . ذلك الفيض الشجي الذي يتردد في أصوات المعذبين في اسقاع الأرض . إنما عذاباتك هي عذاب كل إنسان سحقت إنسانيته تحت أقدام الإستبداد فقضي في أمره وكان الحكم في حياته الإهانة و المذلة .
إن جبروت المستبد. و سطوتة وقوتة، هي مرآة ما أصابك ، فنظراتهم هول وقعها ينزل الموت، لكل من يحاول جهده أن يثني من أحكامه المتسرعة. قولهم كذب و جسارة ومظاهرهم خداعة وضرباتهم أشد من وقع القدر على من لايستطع المقاومة ولا الدفاع عن نفسه.
حاول الشيخ المسكين الوقوف على قدمية مترنحاً، يستعين بجدار قريب منه، إلا أنه بصعوبة يحاول بلا معين. الأرض تدمي قدميه، والهواء البارد يلفح جناحيه، وعينه يغشو بصرها ضوء شمس المغيب، إذا سطعت من بين الغيوم أغمض جفنيه.