“”
قصائد لا تمسِّدُ شعر جاراتها
موسى حوامدة
أعرف أنني لم أكتب النص الكامل، لم أكتب القصيدة الكاملة، لم أكتب القصيدة النهائية، فالنص الكامل وهم، والنص النهائي فخ؟
أعرف أن النص الذي أكتبه حتى الآن، والقصيدة التي تجتاحني حتى الآن مريضةٌ بالنقصان، زاهدةٌ في الكمال، متيمةٌ بتمام نقص صاحبها، متأملةٌ الفراغ الذي يعبئ الصدر والروح، متأرجحةٌ بين حنين لن يعود، وأملٍ لن يتحقق، وعدمٍ لم يبلغ كماله في ملحمة الوجود.
أعترف أن حاجتي للعلاج، كانت دافعي للكتابة، وطمعي في أوكسجين إضافي، وحياة أجمل كان هاجسي الأول، وطموحي الذي لا تبلغ النشوة مداه، والعمر عاجز عن اللحاق به، أكبر من كلمات تدفع كلمات، وقصيدة تطاول السماء، وتنحني بين يدي المطلق.
ما أكتب إذن، وما كتبت من قصائد من “شغب”مروراً ب”شجري أعلى” و”موتى يجرون السماء”، و”جسد للبحر رداء للقصيدة”، وحتى هذه المجموعة،”سأمضي إلى العدم”، قصائد قد تعبر عن رؤيتي للكون،وهي تنشد أنين المجرات الصاخب، عناءَ الجبال المحكومة بالصبر حيث تقيم، وجعَ الغيوم الشاردة، من قسوة الظلال، لهْوَ الخفي، ورنيمَ الألم.
لمَ لمْ يكتمل الكمال في حلبة النقصان إذا؟
لأن كثيراً من الحضور غياب، وبعض الغياب حضور ساطع، يؤذي البصر قبل البصيرة،
ولا تتم الأشياء دون نقصانها، ولا تبتهج الخسارات باختفاء دوافعها.
وهنا أعترف أن الفتنة أشد من الغياب، وأن الغياب لعنة تطارد الهديل، وهي تحفر عميقاً في سرداب العتمة، ولذا لا تقوم السماء بغير عمد، وإن قيل أنها لا تحتاج إلى روافع، فهي لا تعاني من وجع الجاذبية، لكن الأشجار المطرودة من حكمة الخضرة، تعرف أن عذاب التراب لا نهاية له، ومرض الروح لا شفاء منه، وأن الكتمان أبلغ آيات الاحتضار.
“سأمضي إلى العدم”، ليس عدم الفيزيائيين والرياضيين، وليس خلاص الممسوسين بلعنة التَّخيل، وليس عدم الفيزياء، ولا عدم الطبيعة، بل عدم اللافيزياء،عدم المنطق وعدم اللامنطق، عدم الحكمة، وعدم اللاحكمة، فهناك حياةٌ في العدم، أعني عدم القصيدة، ورماد الكلمات التي تضطهدها الحروف، وتثقل كاهلَها الحركات والنقاط والفواصل.
العدم الذي أسعى إليه، لا أعرفه، ولا أحد يمسك به، لا أحد تذوق حلاوته، حتى أجد لنفسي مبرراًللرضا،أوقبولا بالزهو، ووقتاً للطمأنينة.
سأمضي إلى العدم، هناك خلَقت القصيدةُ كمالَها وظلالها وغدها، بعيداً عن شروط الطبيعة، ومنطق الهزيمة، وحكمة الدهور.
ومن تلك الفيافي الواسعة الأرجاء، ومن تلك السهوب الشاسعة المساحة، ومن تلك النجوم الذاهلة عن مساوئ الظنون، تغادر القصيدة أرض التوقع، وشرفة التأويل، لتسفر عن وجهها الرائي، وعينينها الحالمتين، بعالم أفضل، وحياة تليق بنشوة العصيان.
هنا في هذه المجموعة “سأمضي إلى العدم” ألمٌ لم يتمم نقصه بعد، وعدمٌ لم يحقق ماهيته بعد، وحلم يتبشث بما وراء الظلال، وما تحت السريرة، وما بين الذبذبات والذرات، وما في حديقة الحلم المبتور، ونبوءة الهوامش، وهي تجرجر، رداءة الحظ، وأعراض الدهشة، ومتلازمة الجنون.
هنا في هذه المجموعة قصائد لا تمسد شعر جاراتها، ولا تتأبط ذراع قائلها إلى حفلة سهر لطيفة، بل ميليشيات متمردة حتى على قائدها الثائر، تذكر الكمال بدم الضحية، والخطوط بغياب الشهيد، والسطور بذل الحبر .
- سامضي إلى العدم، صدرت حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة، والكلمة ألقيت في حفل توقيع المجموعة في رواق بيت الثقافة والفنون في عمان.