وقف إلى جانب الشاحنة. تفحص صناديق المؤن التي تمّ رصُّها في مؤخرتها. تأكد أنّ فصَّالات الباب الخلفي مغلقة بإحكام، ثم اتجه إلى المقدمة، وأمسك بمقبض الباب ليهم بالركوب. استوقفه صوت صديقه “المحمودي” من بعيد مهرولاً نحوه والكمامة السوداء تحجب أنفه وفمه وهو ينادي: “مخالطي .. مخالطي”. تراجع خطوة للخلف وانتظره حتى أتى.
دعاه صديقه للمبيت يوماً آخر. ألحّ عليه، لكنه اعتذر وتمنع بحجة التزامه بموعد توريد المواد التموينية إلى المخزن العمومي قبل حلول الظلام، وشكره على عزومة الغذاء، والأرجيلة المعتبرة التي تناوب المدعوون كافة على التقاط الأنفاس تباعاً. ابتسم صديقه وودعه مصافحاً إيّاه. ذكره بضرورة ارتداء الكمامة والقفازات، فهو لن يعبر الحدود دون أنْ يرتديهما. قال له: “هذا حُكم الكورونا”، فضحك ضحكة قصيرة انكشفت معها أسنانه الصفراء الداكنة اللون، وكأنها لم تعرف فرشاة مدة حياته، ثم فتح الباب، وأخذ موقعه أمام المِقود. ولوح بيده للمحمودي مودعاً. وفي غضون ثوانٍ دار المحرك ومضت العجلات تحتك بالإسفلت في الطريق الصحراوي إلى الحدود مخلفة وراءها رائحة احتراق.
في الطريق أخذ يسابق الزمن للوصول إلى منزله في المنطقة الشمالية قبل أن يحط الظلام. عيناه بين الدقيقة والثانية تسترقان النظر إلى الساعة في يده. إنه لا يريد أن يفوت لقاءه بجميلة هذا المساء، فالطبيب قد حدّد لهما هذا التاريخ ابتداءً للقاء بحميمية، ولمدة يومين متتاليين، ففي هذه الفترة تحدث الإباضة لديها، ولا بد لهما من الجماع، وإلا ذهب مفعول المقويات الجنسية هباء، وكُتب عليهما الانتظار شهراً آخر حتى يحين موعد الإباضة الجديد.
صورة جميلة وهي تتمدد على السرير بقميص نومها السكري القصير كانت رفيقة له في درب العودة، يرافقها صوت فريد الأطرش وهو يصدح مغنّياً من هاتفه الذكي أغنية “الربيع”. لقد هوّن ذلك الهاجس عليه صمت الطريق وطوله، وأعاده إلى عامين إلى الوراء هما عمر زواجه منها، زواجه الذي تكلّل بالحبّ والعطف والصبر إلا أنّه لم يحظ بالذرية المنشودة، الذرية التي لم يرزق بها من زوجته الأولى “فتحية” بعد عشرين سنة من الزواج حتى انقطع عنها الطمث، مما تطلب منه أنْ يبحث عن الحلّ في امرأة أخرى، ولكن دون أن يعلم أحد.
زواجهما عمره عامان ومع ذلك ما زال يشعر أنّه قد عرف جميلة للتو. ما زالت الحماسة تدفعه للتلذّذ بشفتيها الغليظتين، وضخِّ الشهوة إلى جسدها بعنف وحرارة كلّما أويا إلى السرير. ما زالت صورتها كلّما نأى عنها تستحكم في مخيلته ووجدانه إلى درجة تثير في جسمه الرعشة والرغبة. وهو الآن يتلمسها في داخله بقوة، مما جعله يُعجل من عودته، إلى جانب عاملٍ ثالث أكثر أهمية هذه المرة وهو “الذرية”. هذا فضلاً عن أنَّ جميلة امرأة جميلة، واسم على مسمى، ورغم دخولها في العقد الثلاثيني من العمر إلا أنَّ نضارتها لم تبهت، وسحرها لم يخفت.
بعد ساعتين بالتمام وصل أخيراً إلى الحاجز الحدودي، تذكر قبل الدخول إلى نقطة التفتيش أن يرتدي الكمامة والقفازين. لحسن الحظ شاحنتان فقط يحولان بينه وبين رجل الأمن الذي تحصن بالواقيات الصحية عند البوابة. دقائق قليلة وحان دوره. ضغط على الدواسة وتقدم إلى حيث يقف رجل الأمن، طلب منه فور وقوفه أوراقه وأوراق الشحنة كاملة. أمعن فيها النظر ثم أمر أحد العناصر بإلقاء نظرة على محتوى الصناديق في الخلف.
بعد عشر دقائق انتهى “المخالطي” من نقطة الخروج الحدودية، وأكمل رحلة العودة باتجاه المعبر الحدودي للدخول إلى بلده. عاد إلى فريد الأطرش من جديد وأخذ يتمتم معه كلّما صدح بالغناء.
لم يطل به الوقت حتى انتهى إلى المعبر. نقطة التفتيش بدت مكتظة هناك. شاحنات كثيرة اصطفت في طابور طويل، إلا أنّ المفرح هو رؤيتها تتحرك إلى الداخل في وقت زهيد الواحدة وراء الأخرى.
لما وصل إلى نقطة التفتيش ظهر رجل الأمن أكثر تحوطاً في ارتداء الواقيات الصحية، إذ غطى وجهه بحاجر بلاستيكي إلى جانب الكمامة البيضاء. طلب منه الأوراق كاملة. نظر فيها، ثم طلب منه الاصطفاف في الداخل والوقوف على يمين الساحة والترجل منها لفحصه وتفتيش المركبة.
اصطفّ حيث أُشير إليه. ترجل من خلف المقود. أخذ يعاين العناصر الأمنية وهي تُفلي محتويات الصندوق الخلفي. دقة التفتيش سرقت الكثير من الوقت، ومع شدة الحرِّ بدأ جسده يتفصد عرقاً. استبد به الضيق، ومضى يمسح العرق عن جبينه بظاهر كفّه. أسعده صوت أحد رجال الأمن وهو ينادي اسمه من غرفة الفحص في الجانب الآخر. ذهب مهرولاً، ودخل إلى الغرفة بعد أنْ تمّ رشّه بمواد معقمة من قدميه إلى رأسه. هناك طلب منه ممرضٌ يرتدي بزة بيضاء تغطي كامل جسمه فوقها طاقة بلاستيكة تطوق رأسه أن يجلس على الكرسي، فجلس. عندها سلط على جبينه أشعة تنطلق من جهاز في يده تقيس درجة الحرارة. لقد عرف أن ذلك سيتم، فهذه ليست المرة الأولى التي يُجرى فحصاً فيها.
ظلّ جالساً على الكرسي الخفيض قليلاً. بانتظار الممرض الذي انتقل إلى طاولة في زاوية الغرفة. ولما عاد إليه بعد أن أنهى الإجراء الأول عاد وفي يده عود طويل ذو نهاية قطنية. طلب منه بهدوء أن ينحني برقبته إلى الوراء، ولما فعل ذلك أدخل العود في فتحة أنفه اليمنى. شعر حينها بأن أنفه يدغدغه وأنه بحاجة للعطاس، وأن العود يكاد يتسلّل إلى جمجمته. أتم الممرض التقاط العينة حسب المطلوب، وطلب منه الانتظار في غرفة النقاهة ريثما تظهر النتيجة.
انتظر في غرفة النقاهة أربع ساعات. تغوَّل فيه الملل منذ الدقائق الخمس الأولى. أشاع السكون فيه حالة من الإحباط العميق. لم ينقذه من ذلك الحال سوى هاتفه الذكي، وقد ساهم في قتل الزمن. انغمس في تقليب صور جميلة مخزنة على ملفّ سري في ذاكرته. كان واثقاً من أنّ ضحالة زوجته الأولى المعرفية بالتكنولوجيا لن تقودها لمعرفة موقع الملف، وفتحه والتجول في صوره وفيديوهاته.
قلَّب في صورها المحفوظة في الذاكرة، هيَّجت حنينه بعنف، أربكته رؤية شَعرها البني، وبشرتها السمراء، وأسنانها المتلاصقة في إثر بعضها بدقة وتناغم في الصور. شعر أنّ الراقد ما بين فخذيه ينهض من غفوته، وأنه قادرٌ على إتيانها خمس مرات رغم أن سنَّه قد ضربت الستين عاماً منذ أشهر قليلة ماضية.
بشَّره الطبيب أن النتيجة جاءت سلبية، وبإمكانه المرور على مكتب الضابط المسؤول ليوقع على تعهده بالالتزام بالحجر المنزلي لمدة أسبوعين، ففزّ عن الكرسي وأسرع إلى مكتب الضابط الذي أكد له بضرورة الالتزام بالحجر حرفيّاً وعدم التهاون، فما كان منه إلا أن هزّ رأسه موافقاً وعاد للجلوس خلف عجلة القيادة منطلقاً نحو مخزن المؤن.
جرى “المخالطي” بالشاحنة كالصاروخ فوق الإسفلت. نزع عنه الكمامة والقفازين، وأشعل نور مصابيحها الليلية والشمس مشرفة على الاختباء خلف سلاسل الجبال في الصحراء. ظلّ محافظاً على سرعته القصوى حسب الشواخص المثبتة على أطراف الشوارع طيلة الرحلة، ولم يرفع عينيه عن المقدمة وقد شع القمر بنوره في المعمورة.
وصل بالشاحنة إلى المخزن، وتركها للعمال يفرغونها على رسلهم، وركب سيارته المصطفة في المرآب، وأدار المحرك متجهاً إلى منزله وفي قلبه لوعة لا توصف.
لدى وصوله نظر إلى الساعة في هاتفه. رآها تشير إلى العاشرة ليلاً. فتح الباب بتروٍّ. لم يسمع دبيب نملةٍ في البيت. تأكّد أن زوجته لا بدّ قد غَفَتْ من طول الانتظار. مرَّ من الردهة إلى غرفة النوم. سُرَّ لما رآها غافية مكوِّرة نفسَها على المخدة بقميص نومها البنفسجي الخفيف. لم يشأ إيقاظها مباشرة. أراد الاستمتاع برؤية ما تعرى من جسدها اليافع، فجلس إلى جانبها وشرع يحفر مفاتنها بنظراته. انبهر بروعتها، أحس أنّ الأيام الأربعة التي قضاها في السفر كأنها ملايين السنين. أسقط بصره على فخذيها المكتنزتين المشرقتين، على صدرها المكشوف كالصحراء، على شفتيها الملتهبين بالحمرة، على شعرها البني المجدول، ثم سرى يمرّ بقبلاته الناعمة على فخذها، وذراعها، وكتفيها، وصولاً إلى خدّها المسكون بالنعاس. لحظتها شعرت بلسعة لثمه المستفزّ واستقيظت من رقادها. سألته عن سبب تأخره فور معاينته له. لم يطل معها الحوار وذكرها بضرورة الإسراع بتنفيذ أوامر الطبيب، فأعلمته بأنها لم تنس شيئاً مما قيل لها، وهي في انتظاره منذ الظهيرة.
خلع ثيابه في لحظة، وانقض عليها يقبلها بشراهة، كذئب موتور لم تدخل معدته فريسة منذ أيام. تسلّل بفمه إلى صدرها. أماط عن صدرها القميص، وانقض يمصّ قمة نهدها الأيمن كالطفل الرضيع الجائع، ويده تتحسّس ساقها في الأسفل. فيما هي تضغط بيديها على ظهره بنعومة تاركة له العبث في مفاتنها كيف يشاء.
فرغ الاثنان من واجبهما كما أمر الطبيب. ضمّها إلى صدره تحت الغطاء وهي تهبط بأصابع يدها اليسرى على صدره متلاعبة بشعره الكثّ، وأخذ يفاخر بأدائه الرجولي هذا المساء، والتفاؤل بالنتائج بادٍ على خدّيه. لم يعلم لماذا زاره طيف فتحية مجدّداً وزوجته الثانية في حضنه! أطيافٌ كثيرة مشابهة زارته في الماضي كلّما ضم جميلة إليه. فتحية دوماً كانت حاضرة بينهما، لطالما تملكه شعورٌ بأن ضمّه لزوجته الثانية طعن للأولى في كرامتها، لكن هذا الشعور كان يختفي سريعاً بمجرد تلاشي طيفها في الهواء كما يتلاشى فيه دخان السجائر.
قضّ سكينته جرس الهاتف على المنضدة. قبض عليه بيده. أدهشه ظهور رقم بيته الأول على الشاشة، فقفز عن السرير، واتخذ ركناً قصيّاً للحديث بحرية. إنها زوجته تريد أن تذكره بمأدبه يوم غد في منزله. ضرب على جبينه بكفه فقد غاب الموضوع عن باله. قال لها أن تعدّ كلّ شيء وأنه سيكون في الموعد عند المغيب.
عاد إلى الغرفة. رأت زوجته قلقاً مكتوماً في تعابيره، فسألته وقد دبّ الخوف في صدرها. أطلعها على ما قيل. قال لها أنه قد دعا أهل زوجته إلى مأدبة عشاء في الحي المنسي حيث يسكن، احتفالاً بسلامة أبيها الذي نجا من حادث سير مروّع. قالت له باستهجان وهي تعيد خصلة من شعرها إلى الخلف: “مأدبة! هل أنت مجنون؟ الكورونا تنتشر في البلاد، وهناك حظر، كما أنك وقعت على تعهد بالتزام الحجر الصحي، وأنت تريد أن تدعو الناس إلى وليمة؟”. طمأنها، قال بثبات: “لا تخافي، فالفحص أتى سلبيّاً، والمنطقة التي أسكن فيها نائية ولا تصلها سيارات الشرطة. أمّا عن التعهد فهو إجراء شكلي لا أكثر. هذا فضلاً عن أني لا أصدق ما يقال عن هذه الكورونا، فهي لا تتعدى أن تكون نوعاً من الإنفلونزا على أبعد تقدير. اطمئني.”.
بات في كنف جميلة لليوم التالي. وأنجز معها ما هو مطلوب بدقة متناهية. وفي الساعة الرابعة ركب سيارته واندفع بها إلى بيته الثاني. هناك وجد زوجته بانتظاره والوليمة مفرودة على الطاولة الوسطى. وجد فيها كل ما يفرح الأعين ويتخم البطون، وجد فيها صحنًا كبيرًا من الأرز الأبيض الشهي، وصحنًا مُوازيًا من اللحم المطبوخ الطازج، وصحوناً أصغر من الفاكهة والمخللات والمقبلات والألبان. إلى جانبها أرغفة مرصوصة فوق بعضها البعض من خبز الطابون الفاخر المغلف بالكيس في غرفة الزائرين. حياها ثم دخل إلى غرفته ليغير ثيابه.
بدأ الزوار بالتوافد تباعاً قبل بدء الحظر الليلي في المدينة. أهَّل وسهَّل بهم كما يجب، حتى إنّه لم يبخل عليهم بالضم والقبلات. لوَّنَ كلماته بأحرّ عبارات الترحيب، ووجههم للجلوس في غرفة الصالون للتسامر الذي استمر ساعة كاملة ثم دعاهم لتناول الوليمة حيث أقيمت، فمضى الجميع إلى هناك، وتناولوا الطعام عن آخره، الكلّ يلقم الآخر بيده اللقمة تلو الأخرى، دون أن يمنعهم الانغماس في الأكل عن الاستمرار في الحديث وإطلاق الطُرفات بين الحين والآخر.
انتهت المأدبة بسلام. الكلّ انسل من البيت تحت جنح الظلام كي لا يثيروا الريبة وتهبّ سيارات الشرطة لتعقبهم. انفرج في النهاية وصار بمقدوره أنْ يلتقط أنفاسه ويتحرر من أسر المجاملات المتكلّفة التي وزعها بين الحضور.
في تلك الليلة رأى في داخله شوقاً إلى جسد فتحية، ودفعه توقٌ لمكافأتها على تولي زمام ترتيب الوليمة الفاخرة من الألف إلى الياء. هذا ما حداه لمداهمتها وهي تنزع جلبابها الذي أخفى كنوز بدنها تماماً. بدت امرأة أخرى وهي متخففة من أسمالها. ما زال خصرها رشيقاً كما كان، ونهداها متماسكين رغم مرور العقود، وشفتاها مصبوغتين باللون الوردي المثير. حشرها أمام دولاب الملابس. قبَّل جبينها، ثم انفرجت كفه على رقبتها، ونزل على أرنبة أنفها باللثم الرقيق، حتى وصل إلى شفتيها. هناك جرى يلعق من عسلهما بنهم إلى أن اتخذ هدنة من حماسه ودفن وجهه في الفتحة العليا بين نهديها، ليحملها بعد ذلك بيديه ويقذف بها إلى السرير، وينقض عليها كوحشٍ ضارٍ عثر على ضالته بعد أيامٍ من الجوع.
بعد انقضاء أسبوع على هذا الحدث، أفزع المخالطي رنين الهاتف في منتصف الليل. إنها جميلة. ليس من عادتها أن تحادثه في مثل هذه الساعة المتأخرة. أجاب على الهاتف، أتى صوتها مخنوقاً من الجانب الآخر تتخلله نوباتٌ من السعال. أخبرته أنها لا تستطيع التنفس، وأنّ صداعاً عنيفاً ينهش رأسها. طلبت منه نقلها للمستشفى لكنّه رفض ذلك، وهدّدها ألا تفعل، وأنه سيمر بها في الصباح لنقلها إلى العيادة الطبية في الحي. قال هذا ثم أغلق الهاتف. لم ينم بعد ذلك. ظلّ مستيقظاً حتى الفجر، ولما نال التعب منه وغطّ في النوم أيقظه رنين الهاتف من جديد. ظنّ أنها زوجته فأجاب سريعاً، لكن الصوت أتى مختلفاً، إنه رقمها لكن صوتاً ذكورياً شرخ أذنه وليس صوتها. إنه أخوها. أخبره أنّه معها في المستشفى، فقد استنجدت به قرابة الفجر لاصطحابها إلى المستشفى، وقد أقلَّها إلى هناك وهي في حالة انهيار تام.
أطلعه على المكان، فأنهى المكالمة، ودفق إلى الغرفة ليرتدي ملابسه بحذر خوفاً من أن تصحو فتحية وتبدأ بسؤاله عن سبب خروجه مع ساعات الفجر الأولى. لبس متوجساً. خرج من المنزل مُتسحّباً إلى الخارج، وذهب إلى المستشفى كالبرق.
على مدخل البوابة ناوله عنصر الأمن كمامة وأمره بارتدائها. سأل عن زوجته فأبلغه بمراجعة الطوارئ. هناك عرف أنها في غرفة الفحص، فمضى إليها، وقبيل الوصول لاحظ اكتظاظ الممر بالأطباء والممرضين. كلهم ارتدوا ملابس واقيات صحية محكمة. بلع ريقه، واستجمع قواه، واستمر بالمسير حتى وصل إليهم. سأل عنها أول ممرض اعترض طريقه. ردّ له السؤال بالسؤال عن قرابته لها. عرَّفه بأنه زوجها. صمت الممرض لحين ثم لاطفه، ودعاه للدخول إلى غرفة الفحص.
في الداخل بدأ الممرض بالحديث وفي صوته شيءٌ من التردّد. قال له متأسفاً: “زوجتك مصابة بالكورونا”. هيمن الذهول عليه. التصقت الحيرة بفكره. جمد في أرضه حتى إنَّ صوته لم يبرح حنجرته. تابع الممرض كلامه: “لذا أدخلناها للقسم الخاص بالمصابين، وكذلك تحفظنا على أخيها في غرفة أخرى ريثما نجري له الفحص، وعليك أنْ تتفضل معنا كي نفحصك أيضاً، وتجيب على عدد من الأسئلة.”
مشى معه وسط صمتٍ مطبق، وفيما هو يربط الأمور ببعضها ويصحو من وقع الحدث، بدأ يحرك شفتيه بصوت غير مسموع إلى أن تملكه الذعر. صاح في الهواء وهو يقول: “مستحيل! .. مستحيل!”. حاول الفرار من الممرض غير أنه أوثق إمساك ذراعه بيده، إلا أنّ المخالطي تمكن من تحرير ذراعه، وقام بضرب الممرض بجماع يده فسقط على الأرض. وقبل أن يهمّ بالهروب، هجم عليه أحد الأطباء من الخلف وأوثقه بيديه شابكاً كفّيه ببعضهما، وجره إلى الداخل، وألقاه على السرير، فيما تكفل اثنان من الأطباء المناوبين من لجمه ومنعه من الحركة. شعر بعدها بحقنة تنغرس في ذراعه، ونام على إثرها نوماً عميقاً.
لما صحا من نومه في اليوم التالي، لمس ثقلاً في رأسه. تذكر ما حصل له فأراد النهوض إلا أنّ الوثاق الذي شُدَّ به حال بينه وبين ذلك. انتبه بعد قليل لدخول أحد الممرضين إلى غرفته حاملاً له طبقاً من الطعام وعلبة بلاستيكية من الماء. وضعها على المنضدة الأمامية له دون أن يفتح فمه بكلمة. سأله المخالطي عما جرى له. رمقه الممرض بعين حانقة وردّ عليه: “هل تجهل فعلاً ما قد فعلت؟”. فقال له: “أتقصد ما فعلته في الخارج منذ برهة؟”. مال الممرض نحوه فور أن انتهى من السؤال، وقال له وملامحه يحجبها اللباس الأبيض الكامل والكمامة الزرقاء: “لا أعني ذلك. أنت مصاب بالكورونا، ولم تلتزم بقواعد السلامة العامة، وإهمالك تسبب بعدوى أناس آخرين.”. صرخ في وجهه أن ذلك كذبٌ بواح، ولا صحة لذلك، ففحصه الأخير قد أتى سلبيّاً. صحح له الممرض أن الفحص السلبي لا يعني أنه سليم مائة بالمائة. وقتها استأذنه لإحضار شيء ما، فخرج برهة من الغرفة، ثم عاد وفي يده هاتفه الذكي. فتحه وناوله إياه ليرى ما ظهر على شاشته. ألجمه ما رأى عن الكلام. إنها صورته وسط الزائرين يوم الوليمة الأخيرة. لقد نُشرت على صفحات التواصل، وأصبح حديث المجتمع. تشتت تفكيره تماماً، لكنه لم ينس أن يسأل الممرض عن زوجته المريضة، فقال له والغيظ يملأ حروف كلامه: “لا تخف. زوجتك الأولى بخير، وزوجتك الثانية كذلك.”. أدرك من فوره أن سره قد اكتشف، وألا محالة بأن تكون فتحية قد علمت بزواجه السريّ من جميلة.
أحسّ بألمٍ في داخله، وبأنه ربما لن يتمكن من ضمّ جميلة بعد الآن، ففتحية لن ترضى بشريكة لها فيه، وبأنه قد يصبح منذ الآن حملاً زائداً في حياتها يجب التخلص منه. خالجه شعور بتأنيب الضمير وأنه آثمٌ بإخفاء زواجه الثاني عن الجميع. فرّ دمع من عينيه لم يتمكّن من إزاحته بيده المربوطة. أيقن أنه مقبل على مستقبل مجهول، خاصة بعد أن فُتح باب الغرفة ودخل إليها رجل مربوع القامة مهيب الهيئة، عرَّف عن نفسه بأنه أحد أعضاء لجنة الأوبئة في المدينة.