دق الجرس وفتحتُ الباب،، كانت مُفأجاة كبيرة جدا لي ، أن وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام الأستاذ …!
ياإلهي هل يعقل انه هو …
عبدالله باذيب شخصياً بلحمه ودمه ؟!!
هل يعقل انه صعد كل تلك السلالم حتى الدور الرابع حيث شقتي في عمارة كوريا موريا ، الشارع الرئيسي بالمعلا.. لم يكن كبيراً في العمر ، ( 1931- 1976) لكنه كان مريضا بالقلب .
كان سياسياً من الطراز النادر ، واسس إتحاد الشعب الديمقراطي سنة 1961م ، وهو حزب يساري ،ووزيرا للثقافة ،، وكان مثقفاً إشتراكياً بحق ، قرأ الماركسية ورأس المال ، واعتنق الفكر الاشتراكي عن قناعة لاكما هو حال أصحاب الجملة الثورية والمتطرفين، الذين أصبح على يمينهم!! لكنه قبل هذا وذاك كان وطنيا حتى العظم ، خاض معركة الاستقلال الوطني والتحرر من الاستعمار منذ ريعان شبابه، فأصبح احد اقطاب الحركة الوطنية المناضلة من أجل إستقلال عدن والجنوب اليمني المحتل من الاستعمار، وكان إنساناً بكل ماتحمل صفة الإنسان من معنى ، وجمال ، ونبل .وكان ذكيا، ومفكرا صاحب رؤية مُستقبليةيملأ صيته الآفاق ،أوكما يقال أشهر من نار على علم .
ولعل أفضل وصف لشخصية الأستاذ عبدالله باذيب ماكتبه الكاتب فضل النقيب الذي وصفه بأنه ” رجل الأمل المتدثر بالفكرة الخلابة، وكان دائما في الساحة بثقافته العالية، وقلمه الراقي ، وحراكه الدؤوب، وواقعيته المبصرة، وقدرته على الإقناع والإستقطاب والتنظيم وإشاعةالطمأنينةوالأمل واستثارة مواهب الإقدام والشجاعة وقدرات الجدل والحوار ” .تنوعت معرفة الاستاذ بين الأدب والثقافة والصحافة، والتاريخ والفلسفة والسياسة. ..رجل اجتمعت فيه كل هذه القدرات لابد أن تجعل منه قائداً من طراز نادر، وان يلفت إليه الانظار ويجعل منه (رقما صعبا لايمكن تجاوزه ) والتعبير أيضا لصديقي فضل النقيب.
لم يكن الأستاذ صديقي ، ومعرفتي به على الصعيد الشخصي قريبة وقليلة ،قابلته عدة مرات في سكنه المتواضع في فيلا صغيرة باللون الأبيض، من دورين في خور مكسر، من مُخلفات الإنجليز ،وكانت المُناسبة إجراء حديث صحفي معه لصحيفتي ( 14 اكتوبر) وفي كل مرة كان سخياً معي ، ولم يرفض ولا مرة واحدة لقائي او يعتذر لأي سبب كما اعتاد غيره من المسؤولين ..واقتصرت علاقتي مع (الأستاذ) على تلك المقابلات الصحفية ولم تتطور إلى علاقة شخصية بأي صُورة من الصُور ، وكان هذا حسبي، إذ كُنت حديث عهد بالصحافة وعالم الكتابة ، بينما كان الأستاذ يملك تاريخاً عريقاً بعالم الصحافة والكتابة، واصدر وترأس تحريرالعديد من الصحف في عدن وتعز ، خاض بقلمه من خلالها معاركه السياسية والفكرية وهو شاب لايزال في مقتبل عمره، لكنه صار إسماًيشار له بالبنان، ودخل السجن وحوكم بسبب ارائه، وقصة محاكمته بسبب مقاله ( المسيح الجديد الذي يتكلم الانجليزية )من أشهر المحاكمات السياسية في عدن ، وممن ؟!من قبل سلطة الاحتلال البريطاني ، الدولةالتي تدعي الديمقراطية وحرية الصحافة !!
لكن يبدو أن الأستاذ كان يتابع كتاباتي عن كثب ، باعتباري صحافيا شابا صاعدا، لكنه لم يفصح لي عن ذلك إلا مرة واحدة ، أبدى فيها إعجابه بمقابلة اجريتها مع نائب وزير خارجية المانيا الديمقراطية حينها خلال زيارة قُمت بها إلى برلين ، واذكر انه اتصل بي بالتلفون عقب نشر المُقابلة وقال لي بالحرف : ” هذا هو العمل الصحافي الذي نريده :” لكن ذلك كان بعد زيارته لي في شقتي في المعلا بعدة أشهر ..
2
ماالذي جعل رجلا بمكانة عبدالله باذيب ، يصعد كل تلك الدرجات حتى الدور الرابع،ويتعشم كل هذا التعب ويقصد شقة صحافي شاب لاتربطه به أية علاقة تستدعي منه ان يزوره ، ويتعشم كل هذا التعب ؟!!
سؤال في محله ..
والحقيقة انني لم اطرح هذا السؤال يومها ، ولاحتى بعد ذلك بسنوات ،، اعتبرت المسألة طبيعية ولاتستحق الإستغراب ،، وانشغلت بعد زوال الدهشة الأولى ولحظات الفرح بزيارة الأستاذ، القيام بواجب الضيافة . كان اثاث شقتي متواضعا جداً ، لم يكن فيها صالون حتى
ادعوه للجلوس عليه ، فجلس على الحصيرة ، وحيث يجلس الأستاذ يكون الصدر ، وحرصت على ان اقدم له الشاي العدني بالحليب والهيل بنفسي كنوع من التكريم له ولضيوفي الذين جاءوا معه وهن صديقات زوجتي ..لااتذكر إذا كنت قدمت لهم مع الشاي شيئاً آخر مثل البسكويت أو الكيك !!
كنت حديث الزواج ، لم يمر على زواجي بالاعلامية والمذيعة باذاعة وتلفزيون عدن رضية سلطان غير بضعة أيام ، والحقيقة اننا لم نُقِم اناوزوجتي حفل زفاف ولاأي مظهر من مظاهر الاحتفالات المُعتادة التي يقيمها العرسان واهلهم في …
[0:25 pm, 25/06/2024] عائشة المحرابي: 3
تولى الأستاذ عبدالله باذيب حقيبة التربية والتعليم لفترة قصيرة لم تكن كافية لإحداث تغيير ذي شأن في بنية التربية والتعليم ، لكنه غير مصير كثيرين من الطلاب من الاسر الفقيرة الذين كان يرسلهم إلى الاتحاد السوفيتي بالمئات على حساب حزبه اتحاد الشعب الديمقراطي حتى قبل الاستقلال وبعده الذين اكملوا تعليمهم الجامعي والعالي في مختلف التخصصات العلمية وعادوا للوطن وساهموا في عملية البناء التي كانت تشهدها اليمن الديمقراطية.وحين تولى حقيبة الثقافة احدث نقلة نوعية فيهاخلال السنوات القليلة التي تولى فيها المنصب ( 1973 – حتى وفاته المفاجئة (عن 45 عاما فقط) سنة 1976بسكتة قلبيةأحدثت صدمة في عدن ، خاصة إنها حدثت بعد عودته من رحلة علاج ناجحةفي الاتحاد السوفيتي، اذكر اننا بكينا وغرقنا في حزن عميق ، اما رضية زوجتي فقد غرقت في نوبة بكاء إلى حد الانهيار ،لم تكن مصدقة ان الأستاذ مات بسكتة قلبية وقد زارته بعد عودته وكان في كامل صحته ، إلى حد إنها في ذروة غضبها أطلقت اتهامات بأنهم قتلوه !! لم تسم احداً بعينه ، لكن المعروف من كانت تقصد ..وكانت رضية تنتمي إلى حزب الأستاذ باذيب إتحاد الشعب الديمقراطي، وصديقة لزوجته مرام ،،
4
عدن جميلة. واجمل مافيها إنها مدينة
يحب الناس فيها الحياة والفن ، ورغم متاعب الحياة وصعوبة العيش وبساطته في معظم الأحيان لكن اهلها قادرون على الضحك وعلى السهر وعلى نسيان متاعبهم كأن شيئا لم يكن ..
خلال السنوات القليلة التي تولى فيها الأستاذ باذيب شؤون الثقافة في البلد ، حاول ان يبعث فيها حياة جديدة ، أنشأ المسرح الوطني والفرقة الوطنية للمسرح ، ومعهد الفنون الجميلة ، والفرقةالوطنية للإنشاد، والفرقة الوطنية للرقص الشعبي، ومؤسسة السينما ، واستقطب إلى الوزارة الكُتاب والموسيقيين والفنانين التشكييليين وأصحاب المواهب في التمثيل والإخراج، وحتى أولئك المغضوب عليهم من السلطة ، “والمطاريد من الإعلام والأجهزة الفنية تجمعوا تحت مظلته في وزارة الثقافة بعد ان رمت الإستخبارات مكاتبهم وملفاتهم إلى ملعب الكرة في التواهي ،. يقول فضل النقيب الذي كان احد هؤلاء المطاريد ( لم يشعر احد منا ولو لثانية اننا خارج الاحترام ) واوجد باذيب بأقل الإمكانيات وبهؤلاء حراكاً ثقافياً ، وشجع هذا بقية المحافظات على إنشاء فرقها الخاصة في الموسيقى والغناء والرقص الشعبي والمسرح ، كما ارسل العشرات من الطلاب لدراسة السينما والمسرح والفن التشكيلي وغيرها من التخصصات الفنيةفي الاتحادالسوفيتي وعدد من البلدان التي -كانت إشتراكية- ذات يوم، وكان لديه دون شك مشاريع أخرى لم يمكنه موته المُفاجيء من تحقيقها ، لكنه كان قد وضع اللبنة الأساسية التي اعتمدت عليها الحياة الثقافية في اليمن الديمقراطية في السنوات اللاحقة بعد وفاته .
وللأستاذ إرث سياسي عظيم ليس هنا مجاله ..
أكذب كثيراً لو قلت ان البلد حظيت بسياسي ومفكر ووزير للثقافة مثله ..
..نحتاج إلى رجال مثله حتى ننهض من كبوتنا، كان يحل خصوماته السياسية والفكرية بالكلمة، والحوار ، يقارع الحجة بالحجة،وكان رجل الكلمة الحرة والحوار البناء ، ويحاول ان يؤسس عالما يحترم حياة الإنسان وفكره في محيط لايؤمن بغير العنف وسيلة لحل الخلافات السياسية..
وعندما غاب رجال مثله لم تتعاف البلد ومازالت تدفع الثمن ..
لم نعد نرى المدن الجميلة التي حاول عبدالله باذيب وأمثاله الإجتهاد في تأسيسها ..