اتكأتُ على جدار المملاح الأبيض، ماسحا بظهر كفي الأخرى قطرات العرق المنسابة على جبيني، بعد ركض جنوني وراء تلك الكائنات البيضاء ، الهلعة إثر جلبتي في أض المحمية، ولازالت عيناي معلقة بها، حتى بعد أن توقفت ألتقط أنفاسي المتلاحقة بصعوبة، فيما راح يغيبها الفضاء الأزرق اللامتناهي على مهل
: هجرة موفقااااة.. صرخت بأعلى صوتي مكورًا كفي بقرب زاويتيّ فمي، هاتفًا لطيور النحام المهاجرة التي اتخذت شكل الرقم سبعة في معرض السماء النقية، إلا من نتف سحيبات بدت في طريقها للتلاشي ، التقطتُ حصاة ورحت أمارس هوايتي المفضلة، التي لايتقنها أقراني بقذفها أفقيا وهي تتنطط فوق سطح البحيرات الصغيرة،لتثير رذاذ الماء بشكل مموسق، كطلعات يعسوب الماء النصف دائرية بوجه الصفحة المالحة، على نحو يبعث على الدهشة والانتشاء .
– أووف تذكرت ..على نسوة ! فأطلقت ساقي للريح ملوحا لحافلة الأجرة في الطريق الأسفلتي المحاذي للمحمية، ومن نافذة الحافلة التي أقلتني إلى كريتر قاصدا صديقنا شكيب ، رصد زجاج النافذة طائرة مدنية غادرت مدرجها للتو ،فيما تقاطر صبية في الجوار وهم يهتفون ويلوحون لها بفرحة طفولية غامرة، لمحهم مسن يقعد بجانبي ، فندت عن ملامحه العدنية الهندية بسمة خافته وهو يعدل من وضعية كوفيته الزنجباري وردد : ياطايرة طيري على بندر عدن ،ومن النافذة ذاتها رحت أتخيل المستقبل الوردي الذي ينط من دعوات خالة هدى، المحملة بكل الآمال الخيرة والدفء والسلام لعدن، وأبناء عدن ،وكل الإنسانية كما كانت ترددها دائما.
كنا وقتئذ رفقة في الإعدادية، نلتقي في بيت خالة هدى، بحي العيدروس مقرنا الدائم، يوفره لنا صديقنا-سليط اللسان وابنها الوحيد – شكيب المتشائم – كما ندعوه، باعتباره المكان الأثير لدينا ،والأكثر هدوءا وسكينة،
نلتقي هناك عند العصر ،وهو عصر شكيب الذي اختار هذا الوقت لدلالة في نفسه ،ولم يكن شكيب بنظاراته ذات العدسات السميكة ليشاركنا كثيرًا في نقاشاتنا وجدالنا الذي يعلو، ويخفت حول معادلات الرياضيات، أينا يظفر بالحل ، لأنه يكره هذه المادة بينما يظل منهمكًا في قراءة بعض كتبه العلمية ،والأدبية المفضلة إلى جانب الدواوين الشعرية، والروايات التي تعج بها مكتبته الذي خلفها له والده بعد وفاته .
إذ كان يسخر منا بسلاطة لسانه المعهودة
– لوكنت اعلم أن الفوز بهذا الماراثون المصيري إلى البويضة، سيكلفني كل هذه الحياة المنذورة للمتاعب، لكنت تنازلت لأقراني من الكائنات المنوية الأخرى، لانعيره اهتمامنا ،ويحتد النقاش في تفكيك المعادلات، فيواصل سخريته اللاذعة :
– ماله بس أزعجتوا نحنا، صياحكم واصل للجيران..يكفي صراخا أيتها الكائنات المنوية … فتقاطعه خالة هدى حين تطل من(المشاية) المؤدية إلى الغرفة حيث نحن ,وهي تميل بجذعها كشجرة معمرة ,حاملة لنا ماتيسر من (عواف العصر) ، عصر شكيب المنتقى
– أو عيب عليك ياابني ‘دا لسانه متبري منه،
– قل نووية..نووية
بإذن الله بتقدموا ابتكارات نووية للمستقبل ، تفجروا طاقات الخير ،والمحبة، والبناء، وتنوروا ظلام عدن ،والوطن ،وعالمنا ،وعصرنا بكله.. حفظكم الله ياعيالي.
قاطعت سفري إلى ذاك العالم ،
مذيعة الأخبار ،وهي تذيع ضمن عواجلها ،خبر تفجير محيط المطار بسيارة مفخخة ،والضحية كالعادة أبرياء وعزل
تذكرت حينها خالة هدى في مثواها ،وتشاؤمات صديقنا شكيب ،الذي ترك عصره ،وانتقى عصرا عصريا ،ومكانا مدنيا آخرا يتناسب مع طموحاته ،كما كان يردد في تسجيلاته الصوتية الساخرة ،التي يبعثها من وراء بحر عدن ،وجبالها .
فتحت تطبيق (واتساب) ،ونظرت إلى المساحة الفضية التي يعتليها شريط أخضر، كنت قد سيفته سابقا باسم (شكيب المتشائم)، فشرعت إلى تعديله للتو ،إلى (شكيب المتشائل) ،وكتبت :
إييييه أين أنت ياخالة هدى ؟
لقد تفجر بنا عالمنا ،وعصرنا بارودًا ،ودماءًا، وأزمات ،وتشردًا وو…
أين أنت ياصديقي المتشائم ؟ لقد جمعنا أشلائنا ،وخبأناها في حقائب حتى إشعار آخر،
عل عالما جديدًا يتشكل في رحم الغيب يحتوينا، أو عصرًا كعصرك يطل علينا من براثن هذه الدوامة الدامية.
انتظرت أرقب المساحة الضوئية من هاتفي ،حتى لاحت لي على الركن السفلي إلى اليسار في المربع الأصفر، الذي يحتوي بوحي ،خطين أزرقين في الأسفل
ولمحت شكيب المتشائل يكتب ..
وبعد ثواني ،أطل إيموجي صديقي المترقرق بالدمع 🥺وتحته عبارة : (كلنا بالهم شرق ياصديقي). قطع حوارنا نفاذ طاقة جهازي بعد إنذاراته المزعجة ،فأوصلته بالشاحن حتى عودة التيار الكهربائي، وغيرت ملابسي متوجها إلى كريتر ،وهناك وقفت أتأمل بيت خالة هدى الذي لازال ركامه على عهده ،منذ أن طاله قصف طيران قوات التحالف بالخطأ القاتل إبان غزو الحوثي على عدن ،ولم يعد له حتى بعد انتهاء عاصفة حزمه طوبة أمل، أو يساهم في إعاده إعمار دفئه ،وحميميته المسلوبة
لقد حزم حياة هذا المنزل، وأهله ،وشقاوات الطفولة،والشباب بباروده الغاشم ،ونفطه الصديق وولى
أطلت التأمل في الركام، ومن خلفي تململت خالة خديجة (المجنونة)، كما ينادونها صبيان الحي ،عندما أطلت من الزقاق الحجري ،وهي ترقبني بحذر ،وتلملم شيذرها الأسود بيد ،فيما تمسك فنجانها الفارغ باليد الأخرى
نهضت متقدما نحو الركام بضع خطوات،وسحبت خشبة احترق نصفها العلوي كانت بارزة إلى الأعلى ،وكأنها تندب حظها وتبثه بعض زوارها من الغربان التي استنفرت، حين اقتحامي عليها مزارها .
أزحت ركام الأسمنت وبعض الكراكيب ملتقطا صورة بإطار مهترئ ،وزجاج مهشم تجمع شكيب بوالديه، كان يبتسم .. ويبتسم .. ويبتسم ، فيما كان صدى ضحكاتنا ،وجدالنا في حل المعادلة الصعبة، يتردد في أرجاء الركام .
– سيبك ياابني من الصور والركام قالت ..
، الركام دا بتعمره رجال الله…
لكن من بيعمر ركام القلوب الدامية ،وجراح الأرواح المكلومة
أطرقت برأسي برهة، ثم التفت إليها أستنطق الأسى يتشح ملامحها بلون الفقد
– معادلة صعبة ياخالة خديجة!
وأردفت – وكيف حال عدن في فنجانك؟
أجابت : هناك روح تحلق بمحبة، وتتمتم بدعوات تبارك عدن ،وتفوح أمومة لو وزعت على (أم المساكين) لكفتها شر الزمن القادم ،ولكانت المعادلة أسهل بكثييير مما كنا نتصور..