آفاق حرة
تخت قبة سماء زَرْقَاءَ، تُزَيِّنُهَا غُيُومٌ بَيْضَاءُ كَالثَّلْجِ مُتَقَطِّعَةٌ تَأْذَنُ لِلشَّمْسِ أَنْ تَبُثَّ أَشِعَّتَهَا مِنْ بَيْنِهَا .
قَارِبٌ وَرَقِيٌّ صَغِيرٌ يُدَاعِبُهُ النَّسِيمُ الْعَلِيلُ يَسِيرُ الْهُوَيْنَى عَلَى سَطْحٍ سَاقِيَةٍ تَنْبُعُ مِنْ قِمَمِ جِبَالٍ خَضْرَاءَ هُنَاكَ حَيْثُ تَشِعُّ الرُّوحُ. وَتَلْتَهِبُ الذِّكْرَيَاتُ ، فَتَسْقِي الْأَفْكَارَ الذَّابِلَةَ ، وَ تَرْوِي بَرَاعِمَ حُلْمٍ تَتَفَتَّحُ مِنْهُ زَهْرَةُ الْأَمَلِ تَزْهُو بِجَمَالِ لَوْنِهَا تَنْثُرُ عَبَقَ عَطْرِهَا الْفَوَاحُ بِكُلِّ الْأَرْجَاءِ. تَتَرَاقَصُ بِغُصْنِهَا الْغَضَّ. مَعَ نَغَمَاتِ خَرِيرِ الْجَدْوَلِ وَأَنِينِهِ الرَّخِيمِ.
يَمُرُّ عَبْرَ الْمُرَوجِ ، يَسْرَقُ مِنْ أَطْرَافِ الْأَعْشَابِ وَ خُدُودِ الْوُرُودِ قَطَرَاتُ طَلٍّ لَامِعَاتٍ كَحَبَّاتِ الْمَاسِّ. بِجَمْعِهَا بِخَيْطٍ عَنْكَبُوتٍ عَلَى شَكْلِ قِلَادَةٍ يُزَينُ بِهَا عُنُقُ الْأُمْنِيَّاتِ .
هِيَ الْحَيَاةُ كَقَارِبٍ وَرُقِيَ.
يَتَجَنَّبُ الِالْتِفَاتُ إِلَى صِعَابِ دُرُوبٍ سَلَكَهَا بِالْمَاضِي ، وَيَحْلُمُ أَنْ يَصِلَ بِالْمُسْتَقْبَلِ إِلَى بُحَيْرَةِ أَحْلَامِهِ الْهَادِئَةِ الرَّاكِدَةِ ، يَمُرُّ عَبْرَ الْمُنْحَدِرَاتِ الشَّدِيدَةِ ، وَ الصُّخُورِ الْعَنِيدَةِ.
وعِنْدَمَا تَكْتَمِلُ مَسِيرَتُهُ. يَعْتَزُّ بِكِفَاحِهِ وَصَبْرِهِ ، فَيَتَرَاقَصُ مَعَ اليَعْسُوبُ فَوْقَ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ.
هِيَ الْحَيَاةُ كَقَارِبِ وَرَقِيِّ.
كُلَّمَا تَدَفَّقَتْ الْمِيَاهُ مُسْرِعَةً تَعْرِضُ إِلَى الْغَرَقِ يُقَاوِمُ الصِّعَابَ لَيْلًا وَنَهَارًا ، يَتَعَثَّرُ ، يَتَأَرْجَحُ ، يُعَبِّرُ الْأَرَاضِيَ الْقَاحِلَةَ ، وَيَمُرُّ بَيْنَ شِعَابٍ وَ وَهَادٍ يَرْتَطِمُ بِصُخُورٍ صَمَّاءَ عِنْدَ الْمُنْعَطَفَاتِ .
لَا يَسْتَسْلِمُ ، يَتَفَانَى بِثَبَاتٍ وَ إِصْرَارٍ بِمُتَابَعَةِ طَرِيقٍ طَوِيلٍ ، وَحُلْمٍ بَعِيدٍ ، وَ رَغْبَةٍ أَبَدِيَّةٍ . حَيْثُ يَتُوقُ إِلَى اتِّسَاعِ الْبَحْيرةِ ، فَمَا زَالَ يُطَارِدُ حُلْمَ. لَدَيْهِ ارْتِبَاطٌ وَثِيقٌ بِالْحَيَاةِ . وَأَمَلٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ يَسْكُنُ بَيْنَ طَيَّاتِ قَلْبِهِ .
عِنْدَمَا يَصِلُ إِلَى جَنَّةِ أَحْلَامِهِ،
يَرْنُو إِلَى التِّلَالِ الْخَضِرِ الْمَلِيئَةِ بِأَشْجَارِ الصَّنَوْبَرِ وَالسَّرْوِ، وَالزُّهُورِ وَالْأَعْشَابِ ، وَ جِبَالٍ صَامِتَةٌ ، تَحْمِلُ آلَافَ السِّنِينَ مِنْ الرِّيَاحِ وَالصَّقِيعِ ، وَتَقَلُّبَاتِ الطَّقْسِ، وَدَوْرَةِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ ،فَكَمْ مَرَّةً ضَرَبَتْهَا الْبُرُوقُ وَالصَّوَاعِقُ؟
وَكَمْ مَرَّةً انْهَمَرَ الْمَطَرُ عَلَيْهَا وَتَسَاقُطُ الثَّلْجِ؟ وَهِيَ رَاسِخَةٌ لَا تُسَاوِمُ تقاوم الرِّيَاحَ وَ الْإِعْصَارَ شَامِخَةٌ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ ، مُعْلِنَةً قُوَّتَهَا.
يَمُرُّ عَلَيْهَا الرَّبِيعُ بِجَمَالِهِ ، وَالصَّيْفُ بَحْرُهِ ، وَالْخَرِيفُ بِبَهَائِهِ ، وَ الشِّتَاءُ بقَرهِ.
فَتَحْتَوِيهَا الْجِبَالُ بِعُقُولٍ وَاسِعَةٍ. تَفْرَحُ بِالرَّبِيعِ ، وَلَا يَمَسُّهَا الْحُزْنُ فِي الشِّتَاءِ ، وَتَأْخُذُ مَوْقِفًا مُنْفَتِحًا وَسَعَادَةٍ عَشْوَائِيَّةٍ.بِمَا تَهَبُهُ لَهَا الطَّبِيعَةُ.
طَرِيقُ الْحَيَاةِ وَاسِعٌ وَضَيِّقٌ ، وَ طَعْمُ الْحَيَاةِ حَامِضٌ وَحُلْوٌ ، بِعَقْلٍ هَادِئٍ ،وَ بِصَبْرٍ وَحُسْنِ تَصَرُّفٍ نَجْلِسُ فِي أَحْلَكِ الْأَيَّامِ نُدَاعِبُ النَّسِيمَ الْعَلِيلَ ، نُشَاهِدُ الْغُيُومَ ، نَسْتَمْتِعُ بِمَنْظَرِ الزُّهُورِ وَ نُسْكُرُ بِعَبْقِهَا وَ عَطْرِهَا الْفَوَاحُ، نَتَسَامَرُ تَحْتَ ضَوْءِ الْقَمَرِ نُغَازِلُ النُّجُومَ ، وَنَعِيشُ أَعْوَامَ وَ دُهُورٌ ، وَ أَيَّامٍ وَ شُهُورٌ فِي رِحْلَةِ نَهْرِ الْحَيَاةِ الطَّوِيلِ ، نَلْتَمِسُ جَمَالَ الْحَيَاةِ ، عَبْرَ وِهَادٍ عَالِيَةٍ وَوُدْيَانٍ مُنْخَفِضَةٍ ، نَتَعَلَّمُ مِنْ الْجِبَالِ عَدَمَ الْمُبَالَاتِ وَ مِنْ الْقَارِبِ تَحَمُّلُ الصِّعَابِ وَ بَعْدَهَا نَصٌّلُ بِهُدُوءٍ مُطْمَئِنِّينَ إِلَى بِرِّ الْأَمَانِ .