أخرجَ زوْجَ الجواربِ، تفحَّصهما بنظراتٍ مدقّقةٍ، ثمَّ ألقى بهما جانبًا، عاد للبحثِ في الدُّرجِ السُّفليِّ منَ الخِزانةِ الخشبيَّةِ حتى عثرَ على بُغْيَتِهِ، شعَرَ بالارتياحِ وهو يحرَّكُ أصابعَ قدميهِ داخلهما، رفعَ ناظريْهِ إلى منْ يرقُبُهُ خُفْيَةً، تحدَّثَ وكأنَّهُ يراه رأْيَ العينِ:
– لا تعجبْ! لقد عشتُ تجربةً مريرةً.
أومأَ برأسِهِ وهو يضيفُ بعضَ الرُّتُوشِ إلى الوجهِ الحالمِ، ركّزَ النَّظرَ قليلًا، ثمَّ تحدَّثَ في صوتٍ هامسٍ، كما انسيابِ الفُرشاةِ على سطحِ اللَّوحةِ: “أرى على وجهِكَ هذا الفضول! حسنًا.. سأخبرُكَ بتفاصيلِ ما حدث، كنتُ أكرهُ الثُّقوبَ، وأُلقِي بأيَّةِ قطعةٍ من ملابسي غاليةِ الثَّمنِ، لمجرَّدِ اكتشافِ ثُقبٍ فيها مهما صَغُرَ حَجمُهُ، كذلك اعتدتُ أنْ أفعلَ بالأحذيةِ والمتاعِ وبكلِّ ما أملِكُ، حتى جاء اليومُ الذي لمْ أعُدْ قادرًا فيه على الرَّسمِ، أقفُ أمام الحاملِ ساعاتٍ طويلةً دون أنْ أتمكَّنَ من رسمِ منظرٍ واحدٍ، وفي النِّهايةِ وبعد تكرارِ المحاولةِ مرّاتٍ ومرّاتٍ، وفشلي في كلِّ مرةٍ مزَّقتُ اللَّوحَةَ التي عجزتُ عن إخراجِها من داخلِي، صدِّقْني في السَّابقِ كان يكفي أنْ أمسكَ الفُرشاةَ بين أناملِي؛ لكي تتدفَّقَ الأفكارُ على رأسِي، حتى إنّني كنتُ أسابقُ نفسي للّحاقِ بها، أضعُ مُخطَّطَ اللَّوحةِ سريعًا، ثم أطْوِيها؛ لأضعَ مخطَّطَ اللَّوحةِ التَّاليةِ، وفي النِّهايةِ أتفرَّغُ لإتمامِها كلِّها، وإضفاءِ الرُّتوشِ الأخيرةِ عليها. أحيانًا كنتُ أعملُ على ثلاثِ لوحاتٍ في الوقتِ ذاتهِ، وبالشَّغفِ عينِهِ، لكنّي أصبحتُ عاجزًا تمامًا، استعصتْ عليَّ الأفكارُ، حتّى إنّي لمْ أستطعْ رسمَ أيَّ شيءٍ، ولو كان جناحَ بعوضةٍ، لا أفهمُ سببَ ما حدثَ، وبقيتُ على هذه الحالِ زمنًا لا تطاوعُني الفُرشاةُ، ولا أجدُ في نفسي القدرةَ على الرَّسمِ حتى وقعتِ المعجزةُ، نعم إنّها معجزةٌ بكلِّ المقاييسِ، ولكن تلك قصّةٌ أخرى”
– ألنْ تقصَّها عليَّ؟
تَلفَّتَ حوله باحثًا عن مصدرِ الصَّوتِ، ثمَّ عادتْ نظراتُهُ لتستقرَّ على صاحبِ اللَّوحةِ:
“حسنًا! لقد سبَّبَ بُعْدِي القسْرِيّ عنِ الإبداعِ انهيارًا نفسيًّا عاتيًا، حتى إنّني لجأتُ إلى احتساءِ الخمرِ وتعاطي الأفيون؛ ظنًّا منّي أنهما سيأخذانِ بيدي إلى مملكتي التي طُرِدْتُ منها قسْرًا، ولكن تبيَّنَ لي أنّني كنتُ واهمًا، نعم.. الخمرُ والمخدِّراتُ تنقِلانِكَ إلى عالمٍ غريبٍ منَ الدَّهشةِ، بل قد يمنحانِكَ الشُّعورَ بالنَّشوةِ، لكنَّ النَّشوةَ التي تجدُها في الإبداعِ لا تضاهيها نشوةٌ، اللَّذةُ التي تذوقُها من كأسِها الغيبيّ تفوقُ كلَّ الخمورِ على ظهرِ الأرضِ لذّةً، ممَّا زادَ من إحساسي بالتَّعاسةِ، خاصّةً وأنَّ الأشهرَ قدْ تعاقبتْ دونَ أنْ أرسُمَ أيَّةَ لوحةٍ جديدةٍ، لا..لقد رسمتُ لوحةً حملتْ كلَّ ما كنتُ أشعرُ به من فقدٍ وضياعٍ، كانت بائسةً مثلي تمامًا، أطحْتُ بها عبْرَ النَّافذِة هناك”.
أشار بإصبعِهِ إلى أعلى حيثُ النَّافذةِ المُطَلَّةِ على زرقةِ السَّماءِ، أمالَ رأسَهُ قليلًا وكأنَّهُ يستمعُ إلى صوتٍ ما: “المعجزةُ! تبدَّلَ كلُّ شيءٍ فجأةً في اللَّحظةِ التي خرجتُ منَ البارِ مخمورًا في جوفِ اللَّيلِ، لا أدري بشيءٍ ممَّا يدورُ حولي، سِرتُ أتخبَّطُ في الطُّرُقاتِ الخاليةِ منَ البشرِ، وأُهذِي بكلماتٍ لا معنى لها، فوجئتُ بضحكَةٍ تصدرُ من ركنٍ قريبٍ، ألتفِتُ إلى صاحبِ الضحكةِ حانقًا؛ ظنًّا أنّهُ يسخرُ منّي إلّا أنَّ غضبي تلاشى في اللَّحظةِ التي حطَّ نظري على وجهِهِ، كان طفلًا يرسُمُ بأصبعِهِ شيئًا ما في الهواءِ، ثمَّ يضحكُ في عذوبةٍ، ويفرِدُ ذراعيهِ ليحتضنَهُ، اقتربتُ منه في ذهولٍ وسألتُهُ:
– ماذا ترسُمُ؟
نظرَ إليَّ متعجِّبًا:
– ثُقْبٌ، ألا ترى؟!
تظاهرتُ بأنّي أراه، باغتَنِي بسؤالِهِ:
– ألنْ تدخلَ معي؟
– وهل يكفي الثُّقبُ لندخلَ سويًّا؟
أشار إليَّ لأجثوَ على ركبتي، وضَعَ عُقْلَةَ سبَّابتِهِ فوق جبهتِي، ثمَّ أدارَها مُحدِثًا أزيزًا بمطِّ شفتيْهِ والكزِّ على أسنانِهِ:
– الآن يمكنُكَ العبور.
– إلى أين؟
– الفضاءُ، النُّجومُ، الملائكةُ التي تفردُ أجنحتَهَا لي.
اصطبغَ وجهي بعلاماتِ الشَّكِّ، فما كان منه إلَّا أنْ أمسكَ بيدي:
– تعالَ !
” تركتُ له نفسي، تملَّكَني إحساسٌ أنّي أرتقِي، أُحلِّقُ معه عبْرَ أفُقٍ سرمديٍّ عجيبٍ، أستلقي فوق الغيماتِ، وأقفزُ فوق قممِ الجبالِ، وأمتطي ظهرَ الأمواجِ.
نعم، لقد حقَّقْتُ في لحظاتٍ كلَّ الأحلامِ التي كنتُ أتوقُ إليها منذ أن ولَّتْ أيّامُ الطُّفولةِ الناغيةِ، وجدتُني أجري وسط الحقولِ خلف الفراشاتِ، وأمدُّ إليها كفِّي الصَّغيرةَ، لتهبطَ عليها قبل أنْ تعاوِدَ الرَّفرفةَ، أتسلَّقُ أشجارَ التُّوتِ، وأتناولُ حبَّاتِها المضيئةَ، ضحِكْتُ معه ضحِكَ البراءَةِ الأولى.
عاودَ الصَّمتَ، وبدأَ يهزُّ رأسَهُ في أسفٍ:
– لما هذا الحزن؟ ماذا حدث؟
” أفقتُ فجأةً عندما ترك الطِّفلُ يدي، لأجدَ نفسي مكوَّمًا على قارعةِ الطريقِ، أدرْتُ وجهي باحثًا عنه وسط طوفانِ البشرِ الذين اجتاحوا الشَّارعَ، رأيتُ في أعَينِهم تلك النَّظرةَ الغريبةَ، وأنا أمسكُ فُرشاتي وأرسُمُ، أرسُمُ على صفحةِ الماءِ والهواءِ، أرسُمُ على وجهِ الأرضِ والسَّماءِ.
نعم، عدتُ لأرسُمَ من جديد، وفي شغفٍ لمْ أعهدْهُ من قبل، أشعرُ بيدِهِ المُلهِمةِ ترافقُ يدي، وبريقُ عينيهِ يطلُّ من داخلِ كلِّ لوحةٍ، وأنا أضعُ الرُّتوشَ الأخيرةَ عليها، تنطلقُ ضحكَتُهُ العذبةُ وهو يشيرُ إلى أصابعِ قدمي البارزةِ من ثقبِ الجَواربِ.
