أتته من بعيد، تقاوم وتخترق
تيارات هواء قوية.أرادته هو دون غيره. لماذا مرت بجانب سعد مثلا وألقت عليه التحية فكاد أن يسقط أرضا جراء تحيتها العابرة. لماذا عبرت عن يمين منصور في الجانب المكشوف من الساتر الترابي في أجواء امتزجت برائحة البارود واللحظة الحرجة.
في طريقها مرت بمحاذاة الحائط الذي لطالما لعب تحت ظله صغيرا هو وسعد ومنصور وممدوح ،ولم تقرأ المكتوب على الحائط من أيام الطفولة والمدرسة ( من ذكريات مصباح) ، هل أرادت أن تقول ( لا يهم الآن ، لقد اخترته فلا داعي للدهشة).
أثناء عبورها رسمت تموجات هوائية ساخنة في الوقت الذي بلغت فيه أصوات هادرة ذروتها. هل كان بمقدور أحد أن يوقفها ، لم يبرهن على ذلك أحد . لقد قررت وقرارها قيد التنفيذ، مرقت كالسهم وعاينت في طريقها كتب ومجلات وصحف العم حمدان.أغلب الظن أنها ليست بصدد قراءة خبر ما أو لتتصفح مجلة للجمال وصحفا للسياسة وأخبارا للكوارث. وبينما تسهب في الانطلاق، كادت أن تقبل بحرارة رأس بائعة الفول والفاصولياء المطبوخة التي أغمي عليها بجانب قدورها وهي تسمع الصخب المرعب المفاجئ الذي ذكرها بفقدها ولدها صالح في ظروف كهذه. لكنها مرت من فوقها قبل أن تهوي فاقدة للوعي فلامست خصلة من شعرها الذي تخلى عنه الحجاب في لحظة رعب.
هل راودها شعور أم ثكلى ؟! هي لا تعي ولاتدرك ولا تكترث لشيئ وقت أداء المهام.غايتها معروفة بالنسبة لها وعليها أن تصل وتستقر هناك فمضت تاركة أم صالح لقدرها، لم تلتفت للوراء ، لم تراوغ ، إنها لحظات لن تجرب فيها المحاباة ولا المجاملات، ولما فلان دون غيره وتساءلت هي إن كان ذلك طيش منها ، هل هي طائشة؟؟! لن يفيد الجواب في هذه الآونه في شيئ وقد انفرط عقد الأجوبة وتلاشت في الفضاء الفسيح كبخار ساخن.
الشمس نفسها وقفت ببلاهة في كبد السماء،تصلي الجميع بحممها التي يبدو أنها تؤازر الحمم التي على الأرض . هي نفسها لم تبالي بالطفل محمود وهو يصيح باحثا عن أخيه مصباح المجنون:
– أين أنت يامصباح يا مجنون ، يا أهبل..أمي تبحث عنك ، لقد طبخت لك أكلة تحبها، تعال يامجنون ..يا مصباح…
هل استهزأت بصراخ أم مصباح وهي تحث الخطى بحثا عن مصباح ، هي الوحيدة التي أسرّ لها بسره ، قلبها الوحيد من بين العالم كله يعلم بحاله:
– ولدي مصباح ، أين أنت؟
في عبورها كخط مستقيم لا اعوجاج فيه ، دلفت زقاقا ضيقا، لم يمنعها الظل من المرور، ولا همها قصة مصباح الذي أحب مريم ، أراد الزواج منها، فعاشا قصة حب مجنونة انتهت بحلم خاسر وأمل بائس ودنيا مبعثرة وآفاق مسدودة. وللأسف لم يكن بيد مصباح من الأمر شيئ، رغم فكرة لا عقلانية بالهروب معا بعد رفض صادم من والدها له. لم يمهلها والدها وقتا ولم يرتح له بال حتى زوجها لمن أراد . عقل مصباح بات في مهب الريح ، أينما تأخذه يذهب وأينما تقف به يقف، وحدها أمه تعرف أنه ليس بمجنون، إنه عاشق مهيم.
الآن هل بوسع الريح التي هبت أخيرا وحركت الهواء المكفهر وسط الأصوات المختلطة ببعضها والأزيز المتطاير هنا وهناك، أن تفاوضها على صديقها . هل بمقدور الغبار والأتربة التي علقت بجسده وثيابه الممزقة أن تداري عنه ، أن تحميه أو حتى الرفض والاستنكار .هل بامكانها أن تواسي أم مصباح التي أخذت تولول:
– يا مصباح ، مالك وهذا، للمدينة رب سيحرسها ، عد ، أنت لست للحرب ، يكفيك ما بك من حزن وألم ياولدي.
لكنها لا تسمع ،لا تعي ولا تدرك، بالنسبة لها كان لابد من أخذ الحيطة والاستعداد منذ وقت طويل، ظلت خلاله في حالة تأهب قصوى محشورة ورفيقاتها في صندوق صغير وضيق بينما الشائعات -عن هجوم. وشيك ضدالمدينة – تأتي وتروح.
ممدوح- الذي أمره قائد الكتيبة المدافعة عن المدينة باعتلاء أحدالمباني المرتفعة متخذا قناصا كسلاح- يتحدث إليهن( واحدة منكن سوف تسدي لي معروفا، كن يقظات ).
من هناك أخذ يراقب أحد المواقع في المدينة محدقا بعينين كعيني صقر باحث عن فريسة. يتذكر مريم وينتابه احساس بالكآبة. مريم لا تصغي إلية ويحس بشعورها اتجاهه بالاشمئزاز وعدم القبول ولا تعامله كزوج الا مغصوبة. فأبدى ردات فعل غاضبة لعزوفها عنه ويذكرها بقصة مضت ظهر أنها تعيش تفاصيلها في ذاكرتها.
بالنسبة له لم تكن الأمور تسير طبيعيا، أما المدينة التي شهدت رفقته وصحبته بمصباح في أزقتها وحواريها طفولة وشبابا ، فقد بدت تعج بالناس والباعة ، هذا كشك العم صالح وتلك قهوة أولاد عبد السلام … .. لكن فجأة هوجمت المدينة .
قبل أيام ثلاثة ،أخذ مصباح بعد أن اغتسل وألبسته أمه ملابس نظيفة ، يحدثها من جديد عن مريم . وبين حين وآخر يردد اسمها بصوت متهدج وحزين . يأكل شيئا من طعام أعدته له أمه . تخبره أمه أن يعود لرشده وينساها كي تزوجه أحسن منها . يقف كالملدوغ رافضا مقترحا كهذا مفضلا العيش على ذكرها.
ينطلق خارجا من المنزل ويصيح بأعلى صوته مناديا مريم.كل من في الحي سمع صوته .وقد فعل ذلك عدة مرات سابقة.
في إحدى المرات ، جاء والد مريم وممدوح يناديان أم مصباح ويهددان بارتكاب حماقة ما في ولدها وهي تقول حزينة ( حرام عليكم .. مصباح مجنون).
أضحت المدينة في حالة كر وفر وحرب شوارع مجنونة. هي
في الطريق إليه الآن قبل وصولها بثوان يسمع صوتا أثيرا لديه، أمه تناديه ، لكنها أسبق من صوت أمه. لم تساومه قط ، لقد قطعت شوطا طويلا لاجله لكي تسكن رأسه للأبد.
– مصبااااح…
صرخة ندت عن مريم التي أتت على عجل ،هرعت باتجاهه فاستقبلتها أخرى اتخذت من القلب سكنا فمزقته على بعد خطوة من مصباح.
ومن بعيد جدا ، برز ممدوح خلف زناد قناصه الذي لم تبرد فوهته بعد.