السراب حط على الأرض شرقاً وغرباً,الجو حار،نفخت الدبابة المذبوحة .. أطرقت قليلاً , بلّلت سبابتها بريقها , مدّت أصبعها خلف قفاها , كتلميذة خائبة , تمحوا الاسم المدقوق على ظهر البرج , تآكل أصبعها !!! ولم ينمح المنقوش بالدم , زهقت الدبابة , رفست قوالب طوب الطفلة , التى تحرسها من جهة القناة . فزع حشد الأطفال الملتفّين حولها , هرعوا إلى الأتوبيس الواقف على الإسفلت , ينفخ أيصاً . تسلّلت ببطء يائسة , ركبت الطريق الإسفلتى , اتجهت نحو معدية الفردان , كل من رآها .. تسير تخرخش بقبقابها المتهالك , تُحدث تزييقاً عالياً , وصريراً مزعجاً , يفرّ مخافة العفاريت أو الويل . العربات المقابلة لها على الإسفلت , هجّت نعاجاً شاردة , على غير هدى فى الصحراء ,أطلت بماسورتها على مهبط المعدية , كادت العيون تسقط من المحاجر, سقطت بالفعل الأجساد .
ابتسمت الدبابة , ولكن سرعان ماقطّبت ما بين حاجبيها , عبست لمّا آلمتها شفتها المشرومة من دانته . نطّت السيارات بمختلف أنواعها , دون تفكير فى القناة ؛ هأهأت بالكاد , وهى تضغط على بطنها المفتوحة , تنزّ الصدأ.
قفزت على المعدية , انطلقت بها إلى البر الغربى , صاح الواقفون على رصيف المعدية :
_ الدبابة راكبها عفريت ؟!!
لم يستطع صف العربات الواقف , ينتظر دوره للعبور شرقاً الفرار , تخبّطوا كعساكر ” البولينج ” حين تركلهم الكرة الثقيلة , داستهم .. وتلفّتت داهية , راحت ترسل القبلات الحميمات , أشعلت الحب فى نفوس الطيور .. و الزروع .. والحيوانات .. والبشر ؛ ماتوا ولهاً فى أماكنهم , لمحت النصب التذكارى لجنود الحروب القريبة والبعيدة ” سونكى البندقية ” قبالة الإسماعيلية , المشرع يبقر بطن الفصاء , بصقت عليه اهتز!!! لم يقع , قبّلته وقع . طارت صورالبانوراما .. والجداريات ,عامت على صفحة الماء صورالجنودالذين ….. والذين….. وهياكل المدافع وبقايا الطائرات , وغاصت إلى القاع المجنزرات و….. و…..
فرمتها رفّاسات لنشات مرشدين القناة , وناقلات البترول , وحاملات الطائرات , عملت منها كُبّيبة وكفتة ؟!!
*******
وقفت وسط الزروع .. والطيور .. والحيوانات .. والبشر , ابتسمت , وقالت :
_ تعرفوا .. إن العشق قاتل ؟؟؟!
تهارشت الزروع :
_ عشقناك … وخلاص .
غرّدت الطيور :
_ روحنا متعلقه بك .
نعّرت الحيوانات :
_ أنت أبونا وأمنا.
شهقوا البشر ودبّوا على صدورهم :
_ وميّتين فى دبابيبك .
قالت المعشوقة , بعد ما حسّست على رجلها , وأمسكت نحرها :
_ أموت فيكم , وحياتى بيكم .. شربة ميّه , وبيته .
حطّت الطيور على جنبها , تهفهف عليه محبّة , والزروع .. قبّلت خدّها , وطالت الحيوانات الخد الثانى . والبشر باسوا رجلها الوجعانة ؛ قلعت ” انْدرويرها ” الدبابة , هلّلوا ملوّحين .. انحنت .. أشاروا لها على نبع المياة ؛ وبيته .
تركتهم فرحانين , مشت حتى المجرى , نزلت بدلال شربت , ملأت بطنها , استحمّت .. وطلعت , هزّت جسمها برعشة وعافية , شكل الكلب المبلول . تقاطرالماء على الأرض , انبسطت جداً .. رقدت بعرض السكة , تمرّغت .. لعل الاسم يلطّخ بالطين .
قامت مرتاحة بعض الشىء , راحت بتؤدة خبّطت على باب بيته , فتح لها عيّل صغير فى يده كتاب , نتشته .. لم تجد فيه صورته ولا اسمها !!! ضحكت بينها وبين نفسها . سألته :
_ أنت .. ابن مين يا عيّل ؟
قال لها :
_ أنا .. ابنه .
قالت له :
_ ناد عليه .
رد الولد :
_ أبويا راح يشتغل .
ضربت الدبابة جدار البيت .. وقع . تعرّى كل ما فيه .. لخلق الله . جرى الولد لحضن أمه .. التى شافتها من ظهرها , سألت ابنها :
_ هىّ .. قالت لك إيه ؟؟؟
قال لها الولد :
_ سألت عن أبويا .
لطمت خدّها وصوّتت وقالت :
_ ربنا يسترها عليك يا روحى .. .
***** **
نزلت الدبابة المجرى أخذت غطساً آخر , شربت .. وخرجت فايقة .. ترسل القبلات لكل المبانى الواقفة , تضرب لها تعظيم سلام .. عظّم لها كل الناس الناظرين من الشبابيك و” البلكونات ” , صفّق لها الماشون .. الذين هلّلو :
_ الدبابة رايحه المتحف الحربى .. فى القلعة , زهقت من الوقفة لوحدها فى البر الشرقى !!!
اسمه مكتوب على قفاها , صرخوا به . اغتاظت .. قالت فى سرّها :
_ يا ولاد الجزمة .. هو كان ورثنى عن أبوه .؟
جرت أخذت فى وشّها القلعة , وطائرتين من جنب البانوراما الجديدة , لفّت عليه الإرة . كانت تحط عند العربان , سكان الحضر والبوادى , تأكل وتشرب عندهم , وتسوّى معهم دحيّه ” فرانكو ” باتت فى فراشهم الناعم . حلمت به .. بكّرت قلقة , رحلت إلى بلد آخر , قد يكون فيه , أكلت وشربت وقضت حاجتها فى بيت أ دبهم , سألت عليه . اغتمّت فى قعر بطنها , لمّا وجدته رحل للأرض المجاورة . بكت .. رحلت.. تفاولت بالسم الهارى , وشربت المنقوع .. مصّت سيرته من تحت ضرسها , وتقهْونت . قالوا لها :
_ ويش .. بدّك منه ؟؟؟
قالت رافعة كتفيها عاوجة رقبتها :
_ عيْزاه فى كلمتين .. من زمان .
قالوا لها بعبط .. بخبث .. بخيبة :
_ روّح بلده فى سحّارة .. تعيشى من العمر مليون سنة .
شهقت مندهشة , وقالت وهى ماسكة ذقنها , وسبابتها المبرّية تحت شفتها المشرومة :
_ مين عملها معاه ؟!!
انكســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفوا.
وقفت .. تأمّلت .. ابتسمت وغلبها الضحك . وهى راجعة .. كل من يقابلها يحس بسعادتها .. التى فشلت فى مداراتها .. صاح بعضهم :
_ الدبابة زهقت من الوقفة فى المتحف .. راجعه تانى للبر الشرقى !!!
اتسعت بسمتها .. قهقهت حتى أن الزغطّة .. أمسكتها فترة طويلة . وجدت
النسوة , يلبسن جلابيب الحداد .. جنب الجدارالواقع ؛ شددن رءوسهن بالطرّات السود , لفت نظرها تراب الجنازة , يتصاعد من أحد أركان القرية , أسرعت إلى المقابر .
كان الملقّن يدعوا :
_ اللهم اسكنه فسيح جنّاتك .
رفعت ماسورتها لأعلى , هوت بها على مؤخّرته , انطلق مسرعاً , ومن خلفه المشيعون , تفرّقوا فى أنحاء الجبّانة , مدّت يدها من باب المقبرة , جذبت الجسد الملفوف بالبياض , هبشت غطاء رأسه , نظرت إلى الوجه الشاحب المغمض العينين , لطشته بالكف ؛ بعد أن تحسّست رجلها ونحرها ..
ومشت …
مطمئنة …
تعبث .
كان العيال يلعبون لعبة الحرب , يفرقعون ” البُمب “, ويكبّرون رافعين العلم المعمول , من جلباب أحدهم على كومة ” السباخ “. تربّطت الدبابة فى وسط الحلقة المشتعلة بالصياح . ضرب عيّل ” بُمْبة ” فى رجلها التى تزك بها أوجعتها , بينما تابع رفاقه ضرب ” البمب ” والصواريخ المصنوعة من سلكة المواعين , المسروقة من الأمهات الفقيرات . تفكّكت المهتوكة .. تمزّقت أحشاؤها . هلّل العيال , وكبّروا ” فحتوا ” ودفنوها فى سابع أرض …
جنب…
كومة …
السباخ .