سانت جيمس/بقلم: عادل الامين(السودان)

 

كانت الباخرة التي تحمل العلم البلجيكي تمخر عباب نهر الكنغو،نظر القس جيمس مندوب الملك لو بورد بعينيه الزرقاوين إلى كتل الأجسام السوداء شبه العارية وهى تموج على الشاطئ ،كانويرقصون فرحا وابتهاجا بالوافد الأوروبي..رست الباخرة و أنزلت المرساة،عدل القس من بدلته السوداء ووضع مبصرته عل عينيه فحجبت نظرة الازدراء والتحقيرللاجسام السوداء المبللة بالعرق والأيدي التى امتدت لمصافحته حتى تنال البركة..انهم ابناء قبيلة الكيتو ،المحاربون الأشداء..حملوه قبلا ان تطأ قدمه الارض ووضعوه على محفة واتجهوا به في موكب طويل نحو الغابة محمولا على الأعناق،ظل الأطفال العراة يتأملون الرجل الأبيض في فضول وانبهار..والنساء أيضا،كان اجمل منكل الآلهة التى تصوروها قبل اعتناقهم المسيحية..اخرج القس جيمس الإنجيل من حقيبته السوداء واخذ يقلب صفحاته في ورع زائف ويتحسس بيده الأخرى الصليب الذهبي المتدلي على صدره مثلا معا تحت أشعة الشمس الاستوائية الحارقة..كان هناك رتل من الحمالين يحملون صناديق خشبية..ابتسم جيمس في ظفر،اخذ يسترجع كل التعليمات التى أملاها له مفوض الملك في بر وكسل”إن تزويد قبائل الكيتو بالسلاح الناري يضمن لهم التفوق على أعدائهم التقليديين من قبائل البوكا ..حيث مناجم الذهب والماس،ان الواجب المناط به العمل على إبادة قبائل البوكا وتنفيذ سياسة الأرض المحروقة والتمهيد للجيوش القادمة من وراء البحار”
كان ابناء قبيلة الكيتو يحملون ضغنا مدمرا لأبناء قبيلة البوكا منذ سنين طويلة ،أيام وثنيتهم الأولى..لكن مع مرور الزمن حدث تغيير غريب في قبيلة البوكا,قدم إليهم رجل من جنوب الجزيرة العربية،من بلاد حضرموت،كان تاجرا،كل اللذين شاهدوه في الماضي قالوا:انه كان اجمل ما راته عين”،كان ابيض اللون والثياب ذو شعر اسود فاحم وتقاطيع نبيلة،دمث الخلق وينضح بالحكمة والأيمان،مس شغاف قلوبهم فاحبوه وزوجوه بنت سلطان القبيلة وعلمهم دين جديد،اخبرهم بان هناك اله واحد تخضع له كل نواميس الكون وان له بيتا في جزيرة العرب..اخذوا يحجون إليه كل عام،محملين بالذهب والنفائس والجلود الثمينة ويعودون بالملابس البيضاء التى سترت عوراتهم وعورات نسائهم وأطفالهم،اكسبهم هذا الدين روح التسامح غير المحدود..فاصبحوا ضحايا لغرمائهم الكيتو على مر السنين
******
ظل الموكب يجوس في الأدغال بين الأشجار والأب جيمس يتصبب عرقا ويبدو ساهما وارتال المحاربين تتدفق في الممر كثعبان اسود طويل..وصلوا أخيرا إلى قرية الكيتو،وضعت المحفة على الأرض،نهض الأب جيمس من كرسيه الفخم ونزل،لاول مرة تطأ قدمه الأرض،تقدم نحو الكنيسة المبنية من الطوب المحروق ومطلية بالجير الأبيض،وضع الحمالون الصناديق الخشبية على الأرض،اخرج المحاربون البنادق الجديدة والذخائر..تناول اومام البندقية ورفعها عاليا أطلق نداء الحرب،ردد أفراد القبيلة نداءه بصوت كزئير الأسود،ارتعدت فرائص الأب جيمس وحمد الله انهم من اعوانه..كان اومام الساعد الأيمن للقس حيمس ويقوم بدور المترجم أيضا ،فقد تلقى تعليمه في بلجيكا
جلس المحاربون بعد إن وزع لهم اومام السلاح أعطى كل منهم عشر طلقات واخبرهم بان كل محارب عليه إن يقتل عشرة رجال وياتى بقدم ارجلهم اليمنى تقطر دما ويحصل بذلك على ألف فرنك وينال رضا الملك وبركة الكنيسة..
نهض الرجال وانطلقوا كالفهود الكاسرة في اتجاه جبل ماندى ،إلى مناجم الذهب والماس وقرى أعدائهم البوكا،استدار الأب جيمس ودخل الكنيسة وعلى فمه ابتسامة خبيثة،حمل الحمالون الذخائر إلى غرفة المخزن الملحق بالكنيسة
****
في الصباح سمع القس نداء أحد المحاربين خرج من محرابه وشاهده يحمل جوال علي عاتقه وكيس آخر متدل علي منطقته يموج كأن به قطة ، وبيده اليسرى ممسكا ببندقيته الجديدة ،ابتسم الأب جيمس مرددا:
ـ خطبك يا محارب؟!
ـ قتلت عشرة منهم يا أبت.
وضع المحارب البندقية جانبا وفتح الجوال واخذ يحصي الأقدام المبتورة ويلغي بها علي العشب أمام عيني الأب جيمس المتقدمتين حماسا ودهشة .
ـ تسعة اقدام يا سيدي,
بان الغضب المنفعل علي وجه القس.
ـ نحن قلنا عشرة!!
ـ نعم قتلت عشرة رجال ولكن أحدهم كانت قدمه اليمني مبتورة سلفا، يبدو انه سقط في إحدى الفخاخ الحديدية التي نصبناها للوحوش.
ـ هذا العذر لن يجدي
ـ تمهل يا سيدي، أعددت لك شيئا آخر حتى تصدقني .
فك المحارب الكيس المعلق علي خاصرته والذي يبدو ملئ بقطع غريبة من اللحم أفرغه أمام عيني القس المذهول، تكومن عشرة أعضاء تناسلية مختونة أمام ناظره، أخذ الجندي يحصيها في فرح وحشي ، شهق القس من الدهشة وشعر بالغثيان ثم تمالك نفسه وربت علي كتف المحارب.
ـ يالك من جندي ذكي
ابتسم المحارب وغمره فرح عظيم لهذا الإطراء من الرجل الأبيض
ـ هل سأنال الألف فرانك ورضا الملك وبركة الكنيسة؟
ـ نعم لك ما شئت ، ستكون من اليوم معاوني الثاني وسنصدر تعميم جديد بأنه لا حاجة لنا بألاقدام اليمني المبتورة طالما أن هناك أعضاء أخرى اكثر تأكيدا.
اخرج القس ورقة النقود ولوح أمام عيني المحارب الجشعتين ، أختطف المحارب ورقة الألف فرانك من يد القس وحمل بندقيته وانطلق نحو القرية يغني، غدا ستأتي باخرة أخرى محملة بالخمور والنفائس والخرز الملون والأشياء التي تثير الدهشة من وراء البحار وتنصب الأسواق علي شاطئ النهر ، سيتمكن من شراء كل ما يلزم عشيقته جين من اجل ان ينام معها ليلة سعيدة
***
ثم يوم جاء فيه الرجل البيض*
اكثر خبثا وتشبعا بالضغن
من أي صنف من صنوف الموت
وقايض ذهبك بخرزاته وعصيه التي لا تساوى شيئا
واستباح حرمات إخوانك وزوجتك واعتدى عليهن
وسمم بشرابه أبناءك وإخوانك
وساق أطفالك إلى ظهور السفن
وعند ذلك دوت الطبول من قرية إلى أخرى
أعلنت للناس ان سفينة أجنبية أخري
تحمل الرقيق على ظهرها
قد أبحرت في طريقها إلى السواحل البعيدة
حيث الإله هو القطن والدولار متربع على دست الملك*

********8
القصيدة للشاعر الكنغولي باتريس لوممبا

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!