“الآلام العظيمة يجب أن تعيشها دون تظاهر ، دون شكوى ، دون ضجيج ، دون نحيب.” هكذا غرد صريح الرواية المغربية محمد زفزاف يوما.
ربما كان قصد زفزاف أن على الإنسان أن يعيش آلامه في صمت ويستمتع بمرارتها في شقته منعزلا ، وأن يرتدي قناع الكبرياء ويظهر بمظهر السعيد الراضي عن حياته ما أن يخرج للعالم الخارجي. أحيانا أجدني أتفق مع زفزاف في أطروحته هاته، وأحايين كثيرة أذهب عكسه تماما. يسعدني أن أشارك آلامي مع من يقاسمني نفس الآلام، مرات عدة وجدتني أشكو آلامي لأشخاص تربطني بهم صلة، وانتحبت أمام آخرين، كثيرا ما عشت آلامي بضجيج يا زفزاف! ونصي هذا خير دليل…
أتذكر أني رويت تعاستي لحبيبتي القديمة ذات مساء وأخبرتها أني أتألم لحالي كثيرا، شكوت لها يا زفزاف ولم أخفي آلامي. أستحضر أوقاتا أخبرت فيه أصدقاء السكن أني أملك دريهمات قليلة ولم يعد معي مال كافي لوجبة صغيرة، وأنهم أخبروني بدورهم عن نفاذ النقود منهم أيضا، لم نتناول العَشاء تلك الليلة ولا أحدا منا كان قد تناول وجبة الغذاء، نمنا جياعا، لكن لم يخفي واحدا منا عن الآخر آلامه، ضحكنا تلك الليلة كثيرا من سماع أصوات بطوننا تصدر أصواتا من الجوع الشديد الذي ألم بها، وكم كان حظي جميلا عندما لمحت عيني قطعة خبز يابسة تحت الرف، نعتوني بالغني وقتها أني أملك ما أمضغه وأجرب فكي السفلي ما إن كان يتذكر طريقة المضغ ، ولساني إن كان يحتفظ بقدرته على التذوق.
كانت لنا شقة نتعاون على دفع إيجارها الشهري، وكلما حل مساء جمع مستحقات الكراء اسودت علينا أضواء المدينة. كيف لا وقد كنا ننظر إلى ما يزيد عن شهر من التقشف في الأكل كي نجمع للإيجار التالي. إلى أن أتى قرار فتح الحي الجامعي الذي كان ملاذنا الأخير، ولجناه في الأول من نونبر، في موعد دفع إيجار الشقة المكراة ، وقد كنت لا أملك حتى نصف مبلغ الإيجار ، تخلصنا من دفع تكلفة الشقة لنتفاجأ بضعف مبلغها واجبا لولوج الحي الجامعي. مساءها لم نضحك ولم يُسمع لنا كلام حتى ، إلا شذرات قليلة ، سهرت إلى وريقات من رواية عالم صوفي وكوب قهوة بارد ثم غفوت إلى أن جاء الصباح، لم يكن مطعم الحي قد فتح بعد ، وكان لزاما علينا أن نحضر الطعام لأنفسنا لبضعة أيام، واقتصرت وجباتنا الثلاث اليومية على بيضة و”نيسكفية” وقطعة خبز…
لا أعلم إذا كانت هذه الصعاب وهذه الظروف المزرية التي نخوض فيها هي ما تدفع كريم إلى الخروج كل ليلة ليدخن سيجارته في ساحة الحي الواسعة ، كل ما أعلمه أنه يفعل هذا ، في بادئ الأمر كان يختلس منا ولاعة المائدة ويخرج خلسة منا، يشتري لنفسه أردأ وأرخص أنواع السجائر، يدخن واحدة ، ويعقم يديه بمعقم الباب، وينفض القليل منه على ملابسه ويعود إلى الغرفة حاملا كوب قهوة ابتاعه من الخارج، ذات ليلة منعته من أخذ الولاعة معه وأخبرته أن يشتري لنفسه واحدة ، ويكف عن التسبب في نفاذ ولاعاتنا، صوب بصره علي ودون أن ينطق بكلمة فتح الباب وخرج ، كالعادة لم أكن قد أكلت شيئا منذ الظهيرة، بحثت في محفظتي على أمل أن أجد بضع دراهم بخيسة، وكم كانت محفظتي بخيلة، جادت علي بدرهمين يتيمين ، سحبت الولاعة من الرف وخرجت باحثا عن صديقي وسط طلاب يمارسون حقهم في التمتع بأجواء الليل الرومانسية مع طالبات بسراولهن المنزلية الضيقة وشعرهن المنسدل على أكتافهن ، وصدورهن المكتنزة ..
قدمت الولاعة لصديقي يقينا مني أنه لم يدخن سيجارته بعد، فإذا اشترى ولاعة لن يجد ثمن السيجارة ، فكل ما يملكه درهمين على الأكثر، وهكذا وجدتني أقاسمه شرب سيجارتي الأولى في الحي الجامعي، نفثت دخانها في وجه الحب الذي كان يمارَس في زاوية أمامي ، ولعنت الطريقة التي أصبح العشاق يعبرون بها عن أحاسيسهم ، شعرت بوقاحة العالم والحضيض الذي وصلت إليه البشرية، رغبت في سيجارة أخرى وربما في مئة سيجارة ، ولو دخنت هذا العدد الهائل ما كنت لأخلص نفسي مما هي فيه، شعرتني أريد أن أوقد نارا وأرمي بأحاسيسي وأفكاري فيها..
بين إفطار ببيضة وعشاء ببيضة كنا تتغذى ببيضة، أصبحت نحيفا وكذا زملائي، كنت أشعر بنغزات في القلب وأحيانا تمتد النغزات إلى ألم حاد متواصل، كنت على علم أن سببه نقص في مادة ما يحتاجها جسمي، ولم يكن بمقدوري فعل شيئ، ما من مرة غفوت أثناء المحاضرة بسبب الإرهاق، وفقدت التركيز كليا، كانت الدراسة غاية، لكن هذه الغاية لم تبرر وسيلتها هذه المرة، الوسائل المفروضة علينا من أجل غاية الدراسة كانت تفوق قدراتنا، البطون الجائعة، أصحابها لن ينتجوا شيئا، لن يستطيعوا التفكير أبدا، أنصتوا إلي عندما أخبركم عن مرارة الجوع والبرد والقهر والبؤس والآلام العميقة..
أمي تتصل من الريف كل مساء تقريبا، تسألني عن حالي، أكذب عليها حين أخبرها أني أنام دافئا، وأكذب عليها حين أتقمص صوت السعيد المرِح، أكذب عليها حين أخبرها أني أملك المال الكافي لحين عودتي، أكذب ومن شدة الكذب أصدق حالي، لست الوحيد الذي يكذب هذه الأكاذيب البريئة ، صديقاي أيضا يكذبان، ولعلها أكاذيب صادقة..