طقوس يومية / بقلم : السيد حمزة

(1) تخرج ” بوح ” من باب الصباح ، فيخرج من جحره .. يتثاءب .. يُنْفض جسده .. تتساقط حبات الرمل على الأرض كقطرات المطر، يوقد ناراً ..ويسوِّى شاياً فى الأبريق العتيق ، يحتسيه وهو يقرقش كِسرةً من القديد ، يتكىء على كوعه .. يرسم خطّاً مُنْكَسراً بجسده ، وينفث دخاناً غزيراً . تتسربل “بوح ” ثوب الضُّحى ، يستقيم متكأه .. يلتفت يميناً ويساراً ، ينقلب على بطنه .. يستوى بالأرض ، يضع رأسه بين كفَّيه ، يرفع قصبتيه مرتكزاً على ركبتيه ، يُصفّق بقدميه .. برطانة يثرثر مع آخر بجواره مسطوح البطن ، ينتفض واقفاً ، يلقى الحمادة .. يستريح .. يشفى .. يعود يتكىء على كوعه ، يرسم خطّاً منكسراً بجسده ، يحتسى شاياً من الأبريق العتيق ، وينفث دخاناً غزيراً . تتعامد “بوح ” فينادى ” يا ضُعُوف ” تأتى أوانى الفتة المختلفة ” فتَّة العدس .. فتة البندورة ..فتة البامية .. فتة الملوخية .. فتة الشاى ” يتسابق .. يغرس أصابعه .. يُكوِّر قطعاً من فتَّته ، ويقذفها فى فيه ، ويكور أخرى حتى يأتى على الفتّة تماماً ، يمسح الإناء بإصبعه ، ثم يدسُّه فى فيه ، ويمسحه ضاماً شفتيه ، فيحدث صوتاً .. يتكىء على كوعه ، ويرسم خطّاً منكسراً بجسده ، يتجشأ .. ويحتسى شاياً من الأبريق العتيق ، وينفث دخاناً غزيراً . يستطيل الظل ، وتقترب ” بوح ” من نهاية رحلتها اليومية ، يستقيم من تكسّره ، يتلفّت يميناً ويساراً ، ينقلب على بطنه .. يستوى بالأرض ، يضع رأسه بين كفيه ، يرفع قصبتيه مرتكزاً على ركبتيه .. ويصفق بقدميه ، يرمق الجحر ومسخه الأسود ، يعتدل متكئاً على كوعه ، يرسم خطاً منكسراً بجسده ، ويحتسى شاياً من الأبريق العتيق ،وينفث دخاناً غزيراً . تتسربل “بوح ” ثوب الغروب ،ويعم الظلام .. ينتفض واقفاً من مرقده ، يتسلل إلى جحره …..و….. و ….. و ….. وينادى حرمته . (2) تخرج “بوح ” من باب الصباح ، فتخرج من الجحر ، تتثاءب .. تنفض جسدها .. تتساقط حبات الرمل على الأرض كقطرات المطر،تسوِّى ” لبةً” للصغار على الجمر المتقد ، تقدم اللبة الساخنة لهم ، يلتهمون اللبة المفحمة ، وهم يحتسون لبن النوق أو الشياة أو العنزات ، يمرحون قليلاً حولها ، ثم يلقون المقعد ، يركبون ظهور آبائهم . تجهز علف كائناتها .. تنثره على لوح من الصاج ، ينقرون .. تصب لهم الماء فى المساقى .. يشربون .. تتجه نحو الحظيرة الخاصة بالأغنام والماعز بعد أن تصب الماء فى طست كبيرة من الزنك ، تفتح باب الحظيرة .. تنطلق الأغنام والعنزات نحو الطست ، تعب الماء ، تجهز فتاتها راعية الحلال .. تملأ زمزميتها .. وتضع لها الدقيق فى الجراب ، وقليلاً من الشاى والسكر.. والكبريت ولا تنسى أن تدس الشّبرية فى قاع الجراب . تعلّق الجراب فى رأس فتاتها ، يستقر فوق ظهرها ، تناولها الدلّة والعصاة ، تسوق قطيع الحلال ، فتنطلق الأغنام والمواعز مسرعة إلى المراعى فى بطن الصحراء ، وهى تلقى على فتاتها بعض النصائح : ” ارع الزلطان والحملان ، تصرَّفى بشدة وحزم إذا نشبت معركة بين الكباش أو التيوس، العودة عند الغروب ، الشبرية فى قاع الجراب ، إيَّاك وفك الحزام ” تتسربل “بوح ” ثوب الضحى ..تجهز العيير ، توثّق الزمازم فوق ظهره بحبل سميك ، تتجه نحو البئر .. يسبقها العيير الذى يعرف طريقه جيداً ، ترحب بها النسوة الواقفات يملأن الزمزميات من البئر ، ويثرثرن ..تثرثر معهن فى شأن هؤلاء المنبطحين على بطونهم ، بأن يهم كل منهم بعرسه الثانى أو الثالث أو الرابع ، يساعدنها فى حمل الزمازم وثوثيقها فوق ظهر العيير ..تعود إلى الجحر الحطبى ، تفك الوثاق ،تنزل الزمزميات ، وتطلق العيير، تجهز الفأس والحبل أدوات الاحتطاب ، تنطلق بمفردها أو بصحبة العيير ،تقطع الأ شجار العتيقة .. بسواعدها القوية تكوِّم أكواماً صغيرة ،ثم تجمعها فى كومة واحدة ، تربطها بالحبل،وترفعها على ظهر العيير،تعود إلى الجحر حاملة الحجر الثقيل ،ترميه من فوق ظهرها أو من فوق ظهر البعيير، وترتبه حول الجحر . تتعامد ” بوح ” ..توقد نارً تخبز حمشاً ،تسوِّى من الفتة المختلفة ،تتناول بعضاً منها .. ثم ترسل الأوانى مع الصغار إلى المقعد ، تغسل الإناء بعد مسحه بالإصبع ، تصب الماء لكائناتها ،وتنثر العلف ، ثم تدور حول الجحر و الحظيرة حاملة أشياءً بين يديها . يستطيل الظل ..وتقترب “بوح “من نهاية رحلتها اليومية ،تتجه نحو الحظيرة .. تقوم بتنظيفا ،وصب الناء فى المساقى الجافة ،تضع بعض العلف للحلال الغائب ، ترمق المقعد .. تميِّز بعلها والصغير الذى يمتطيه . تتسربل “بوح ” ثوب الغروب .. ويعمُّ الظلام .. تغلق باب الحظيرة على ساكنيها ، تربِّت على ظهر فتاتها ، وتحمل عنها الجراب المعلق فى خطاف رأسها ، ترفع ذيل ثيابها .. تحدق بين فخذيها .. تنصرف .. ترتِّب الجحر ….. و ….. و ….. و ….. وتلبِّى النداء .

**************************************************************************

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ

بوح : اسم من أسماء الشمس . ـــ

الضعوف : الأطفال الصغار . ـــ

الحمادة : مكان قضاء الحاجة .

ـــ اللبة : خبز يقوم البدو بطهيه على الجمر مباشرة .

ـــ الجحر : فى بعض المواضع يقصد به الكوخ البدوى .

ـــ الحلال : ما يمتلكه البدوى من أغنام وماعز .

ـــ الزليط : صغير العنز بعد ولادته .

ـــ الشبرية : سلاح أبيض كالخنجر .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!