رغم امتلاء بنيتها إلا أن شعورا بالخواء يتملكها، وإحساسا بالتقزم يتفاقم كلما استعادت مرارة أيامها معه، تتكثف ذكرياتها لتصبح عبرات تخنق حتى أنفاسها، تغالب دمعا على وشك الخيانة. يجلدها صدى كلماته كما تفعل أشعة الشمس الآن، وتلهب خدها الذي ألهبته كفه هذا الصباح.
تنكمش حتى تتلاشى وتنفصل في عالم آخر تغيب فيه الأصوات، وتغيم الأشياء من حولها، ويطغى إحساس متجذر بالذل والمهانة، يستيقظ في داخلها حقد يتضخم مع اجترارها للألم لحظة بعد أخرى، حتى أصبح غولا يقتات داخلها.
هل لا زالت تحبه؟ هل تكرهه؟ أسئلة لا تعرف لها إجابة، كل ما بقي لديها من فتات الحقيقة، أنه زوجها ووالد طفلها.
أخرجها صوت جرس المدرسة من حبسها، معلنا انتهاء اليوم الدراسي، تلاشى ضباب الذكريات، استعاد الوجود حضوره من حولها، عادت أصوات الأمهات تحيطها، تفرقن في ساحة المدرسة بحثا عن أطفالهن.
نهضت عن الأرض التي افترشتها، حاولت نفض ما علق في ثيابها من غبار الانتظار، وما في نفسها من ألم.
جالت بعينيها بين حشود الأطفال المتدافعة، حتى رأت طفلها يتهادى إليها، تعيق حركته حقيبة ظهر ثقيلة.
احتضنته، وانطلقا يقطعان طريق العودة، هو تثقله الحقيبة، وهي يثقلها ذلها، ولكن ثرثرته عن يومه المدرسي تخفف ثقل الطريق.
كان حديثه يحضر ويغيب عن ذهنها الشارد، حتى أحست بيده تشد ثيابها، والأخرى تشير إلى كشك لعصير الليمون.
قطعا الشارع باتجاه الكشك الذي انتصب على طاولته خلاط كهربائي، تحوم حوله نحلات عنيدة، اصطفت بجانبه بضع كؤوس زجاجية ودلو بلاستيكي، بمحاذاته اسفنجة امتصت من الأوساخ أكثر مما تحتمل.
خلف الطاولة وقف شاب ثلاثيني ضئيل الجسد، له بشرة سمراء لوحتها الشمس، وعينان جريئتان، يرتدي فانيلة كانت ذات يوم بيضاء، ويشك في مقدمة شعره خلة أسنان خشبية.
استقبلهما بابتسامة ساحرة، وأسرع يحضر الطلب، مد كأسي ليمون بيديه التي يطوق إحداها سوار أسود بلاستيكي.
أربكتها نظراته التي كانت تحدق في عينيها فتخترق دواخلها. رغم عطشها لم تستطعم مذاق العصير الحلو البارد، لكنها استشعرته في انتعاش طفلها وحركة لسانه الذي راح يلعق ما تبقى على شفتيه الرقيقتين من رغوة وحلاوة.
تركت كأسها على طرف الطاولة، همت بدفع الحساب، انتبهت لصوت البائع الدافئ وهو يعارض، ويبدي كرمه. تجاهلت عرضه، وعندما مدت يدها لتدفع الثمن، كانت يده تلامس كفها، وأصابعه تتحسس راحة يدها، انتفضت وسحبت كفها بحدة، تاركة إياه يطلق تنهيدة من أسْرها.
ارتجفت وانطلقت في غضب يتبعها طفلها غير مدرك لما حدث، تشيعها كلمات أغنية عاطفية ترسلها حنجرة بائع الليمون وابتسامة ذئبية ترتسم على شفتيه.
في هرولتها لم تعد تشعر بالخوف ولا بغضبها، الذي تلاشى مع كل خطوة في الطريق.
غاب الوجود حولها، وتركز حضوره في كفها الأيمن، في ذلك الخدر اللحظي، في اللمسة الدافئة، والكلمات اللطيفة. طفت على وجهها ملامح خجل عذري، وشعور بالفرح والامتلاء تنامى في داخلها.
انتزعتها من غيبوبتها وخزة من أعماقها، وقبل أن يبدأ فصل جلد الذات، عاد صوت طفلها مثرثرا عن أحداث حاولت دون فائدة لملمة تفاصيلها.
ظلت الأفكار المتتاقضة، والمشاعر المتضاربة تتجاذبها، ولم تفلتها حتى وصلت باب الدار.
أمام مرآتها التي كسرها في إحدى نوبات الغضب، حررت ضفائرها، تأملت وجهها بتلك النظرات الجريئة التي سكنت عينيها، عاد شعورها بكفها الأيمن، وإحساسها بتلك اللمسة، التي أعادت لنفسها اضطرابها. بسطتها، تأملتها، قبضت على تلك اللحظة في ذاكرتها.
فجأة تكثف الهواء الذي حولها، فانقشع ستار الخيال، وعادت إلى مسرح الواقع؛ شعرت بثقل حضوره، برائحته التي تحفظها، بانعكاس صورته المشروخة على المرآة، وأنفاسه التي كرهتها، استدارت هلعة، انكمشت، عيناها تتسعان بلا حدود، رفعت يدها اليمنى لتتحاشى ضربة متوقعة، أمسك معصمها بقبضته القاسية، شدها نحوه بقوة، وألصق كفها الأيمن بشفتيه الظمآنتين.