يمسك بمقود سيارته التكسي، بكلتا يديه، حتى يلامس مرفقيه تلك الدائرة الملفوفة بلاصق مهترء، الحاج أيمن من مواليد (1928)م، لم يترك الزمان في رأسه شعرة واحدة، يداه ترتجفان كلما رفعهما عن المقود، وهو بالكاد يرفع إحداهما ليمسك بناقل الحركة، وكأنه تفلت من جرف، وأمسك بغصن ناتئ منه، ينحني للأمام ملتمساً مزيداً من وضوح الرؤيا تحت حبال المطر، لم تخفي أكمام سترته السفاري عروق يديه الزرقاء النبيلية، وتلك البقع البنية التي رسمتها سنوات العمر على ساعديه، عيناه مطفأتان، بلا بريق، ومن أين يأتي البريق، وقد مرت عليه مصائب، له أنها مرت على الأولاد، لأصبحوا شيباً، في عامه الثالث والتسعين، وما زال يعمل، يتذكر بين الحين والآخر، أيام كان في السعودية وليبيا، حيث ازدهرت أعمال الإنشاءات والبناء، في الخمسينيات، وكان من روادها، في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وطرابلس الغرب، ويذكر تلك الحجج الثلاثين التي أكرمه الله بها مع أمه، كانت تدعو له بطول العمر، وليتها لم تفعل….زوجته أم سالم تبلغ من العمر الثامنة والسبعين، أنجبت له سالم وعبد الرحمن، وخالد، وقد عملوا معاً تحت جناجه، وتزوجوا وأنجبوا….
لم يكن أبو سالم يعلم أن الثلاث والثلاثين حجة التي قام بها مع زوجته، والحياة الرغيدة التي وفرها لها، لن تشفع له عندها.. فتطلب الطلاق….بعد ستين سنة، طلبت الطلاق …لكن ليست هذه بمصيبة، فما الوفاء بخلق يشترى….لكن كيف بدأ نجم أيمن بالأفول…
منذ نحو ثلاثة أعوام، أتصل إبنه سالم به، وأخبره أن خالدا، وقع من السقالة، من إرتفاع خمسة طوابق، وارتمى على الأرض، بين الحياة والموت، فهرع الوالد إلى موقع البناء، مستغيثاً بالمشفى الأمريكي – السعودي، وهو الأوحد، لإنقاذ إبنه، فرفعوه عن الأرض كلوح خشب، لا يجب أن يتحرك، وإلا شل جسده بالكامل، الإصابات بالغة الخطورة، في عنقه وعموده الفقري، وضع في قالب من حديد وجبس لمدة ستة أشهر، ثم خضع بعدها لعلاج فيزيائي مكلف للغاية، وكانت الأحوال تسير بدراماتيكية غريبة، كلما تحسن جسد خالد، تهالكت أموال أبيه، حتى أشرف على الإفلاس… حتى اضطر إلى السفر من السعودية إلى سورية، ليبيع بعض أملاكه، لكنه فوجئ بإندلاع الحرب، فسدت منافذ الرجاء أمامه، توقف البيع والشراء، وتحولت تلك المنازل والمحال إلى ركام، علق أبو سالم خلف جدران الموت، بينه وبين حياته الهادئة.. إتصال و1000 ريال..
تتمة
عام بلا صيف
أجرى أبو سالم ذلك الإتصال المشؤوم مع سالم، فكان رد الأخير : أبي ليس لك مال عندي، لقد أنفقت أنت ثروة العائلة على أخي خالد… ولم يبق إلا بيوت سورية وقد ذهبت لتبيعها… ووسط ذهول الحاج.. وقعت السماعة من يده، للحظات تذكر كم أنفق على سالم في تعليمه وزواجه وورشته الجديدة، ثم أعاده كبرياؤه ليمسك السماعة، وإذ بسالم يتابع لوم أبيه: ياابي أنت لم تحسب حسابنا نحن.. يا أبي… وعندها أرتفع صوت الوالد وقطع الحديث، وأنهاه بعبارة : لا تقول أبي… أبوك مات يا ولد…
ثم اتصل الحاج بولده الثاني عبد الرحمن، لكنه وبعد عدة محاولات، علم أن لا أمل في الوصول إليه، فزوجته قد أنهت كل أمل مع كثرة الحجج الكاذبة والإعتذارات… أما خالد فما زال رهينة رحمة الأخوة وعجز الحركة…
مضى أبو سالم بخطوات متثاقلة، لم تكن هذه الانتكاسة الأولى في حياته، فلطالما وقع ثم عاود النهوض، لكن هذه المرة كانت الأقسى، والأشد وطأة… جلس نحو ساعة يفكر… يقرر، يقلب الأمر.. هل في العمر متسع للمضي قدما… وكيف يمضي وبالكاد يملك مالا يكفيه طعاما ليومين…
عاد إلى غرفته الموحشة في فندق قديم عرف صاحبه أيام الشباب، سأله الرجل. لما كل هذا الحزن ابو سالم؟ هل فقدت أحدهم لا سمح الله… رد الختيار بصوت خافت متقطع، نعم.. إنا لله وإنا إليه راجعون… فقدت اليوم رجلا كريما عزيزا.. كان أبو سالم ينعي نفسه بحرقة….
لحقه صاحب الفندق، وهو يلح في السؤال.. فروى له ما حدث… تذكر الرجل فضل العجوز ، فقد أقله من عثرة وقع بها أواخر الخمسينات…. ثم تبسم ضاحكا، وقال لإبن التسعين (شد همتك أبو سالم… عروستك جاهزة)، لم تظهر على وجه الشيخ أي علامة تدل على أنه سمع شيئا، كان شاردا في عقود مضت، كيف دارت به الأيام وغدر به بنوه… ما الجريمة التي أرتكبها ليستحق هذا العقاب الإلهي.. أولاده في خير وأمان من الفقر.. هم وأولادهم.. وزوجته تمتلك من الذهب ما إن باعت قطعة منه، لأعادته إلى السعودية معززا مكرما.. ..والآن هو مرمي.. بين هم الممات غريبا في الوطن، وهم العيش فيه فقيرا بلا أمل.
إتكأ على كتف السرير، ثم نظر إلى صاحب الفندق، وسأله : هل تؤمن عمل لي؟ … إنفرجت أسارير أبو أحمد، وقال تحت أمرك.. ما المطلوب… فقال : أنا لم أعد أقوى على العمل المجهد…لكن أستطيع العمل كسائق تكسي…
مضت ثلاثة أعوام… يردد أبو سالم فيها دائما الحمد لله، الله لا يعيزني لحدا… ياااارب أمتني بكرامة… لا تحيجني لأحد….
…..
تسربت بعض الاخبار من السعودية، فإبنه البكر، دهس مواطن سعودي، وتغرم بمبلغ (٦٠.٠٠٠) ريال، وطرد من السعودية، والثاني ضاع جل ماله وافتقر…
مر الشتاء قاسيا على أبي سالم… فلم يعد هذا الجسد قادرا على تحمل البرد. ولا الساعات الطوال… وذات ليلة منعشة، من أواخر شهر نيسان.. أوصل طبيبا إلى المشفى المركزي، وحين سأله الطبيب مازحا عن مشاريع الصيف.. ضحك أبو سالم.. ضحك بصوت هستيري… وقال للطبيب.. الصيف… أي صيف… هذا العام…. بلا صيف… والتفت إلى الطبيب.. وقال له.. مسامحك بالأجرة يا بني.. ساعد الناس الله يرضى عنك.. ثم أسند رأسه على المقود.. سقطت يداه جانبا… إلتوت عنقه… لم يجب على نداءات الطبيب المتكررة… تلمسه الشاب، وإذا هو بارد كقطعة ثلج….
مضى أبو سالم في رحلة نحو ربيع هادئ… لا صيف حار يحرق ساعده الأيسر بعد اليوم، ولا شتاء قارس ينخر عظامه الهرمة…
أما أولاده وزوجته فلعلهم في خريف دائم…