عناقيد النار/ بقلم : الاديب ربيع عقب الباب

حين عرض على الأمر ، لم أفكر كثيرا ، وافقته فورا ، و كان لزاما تعقبه ، حتى في لحظات راحته .. نعم .. كيف أكتب عن شخص لا أعرفه ؟
درت معه في أنحاء القصر ، الذي يعيش فيه ، أتعرف عن حجراته ، و على التحف المتناثرة هنا و هناك ، و أنا منبهر للغاية ، و إن كنت أعي ما أسير فيه!
حتى تلك اللحظات التي كان يسترخي فيها ، و هو يمضغ قطع الحشيش ، أو الأفيون ، و يتحدث إليّ ، كأنه يهذي .. لم يكن من حاجة لجهاز تسجيل خوفا من تفلت الذاكرة ، أو الزهايمر الذي بدأ يشاكسني ؛ فقد كان الأمر في غرابته فريدا ليظل قويا في مخيلتي ، بل أقوى مما تصورت !

ربما كان من تلك الفئة ، التي تثير في الاشمئزاز ، و أبالغ في تحديها ، و تحدي أدواتها غير الإنسانية ، في ارتكاب جرائم جمع الأموال .. وجرائم الجنس ، حتى وهو زوج لامرأتين ، أولهما ثابتة ، و الثانية متغيرة كما قطع الأثاث ، يشتريها كل عام ، أو كل بضع شهور ، بعد أن تكون أخرى هيجت ذكورته ، التي يستطيع دائما استحضارها في حالة نفور دائم ، بفضل الأطباء الذي يستدعيهم ، و الكثير من المنشطات غالية الثمن .. أردت بعض هدنة لأعرف .. فقط لأعرف ، ومن ثم أقرر ، أو يقرر الوقت ، أعود إلى مشاغبتي ، أم أكون بينهم محض كلب حراسة ، أو إمعة ؟ !

لم يكن قد مر وقت طويل ، على مصاحبتي إياه ، حين بادرني :” ما رأيك .. معي دعوة في مدينة ساحلية .. أتحب أن تكون معي و ترى ؟!
لم أتوان عن الإيجاب :” نعم .. دعني أعرفك بشكل جديد ؛ إنني أفكر في عمل أسطورة بك “.
بالطبع كانت الكلمات ، دعوة له ، على عدم التخوف مني ، أو معاودة التفكير في أمر مصاحبتي ، و إرخاء الحبل إلى أبعد حد ممكن ، و أيضا السماح لنفسي لكشف هذا العالم الغامض بالنسبة لريفي مثلي !

وصلنا و الحفل في أوجه ، كانوا يحيطون بعامل نظافة ، أطولهم يلقمه قطعا معدنية ، و آخر يصب الماء في فيه ، و ظلوا على هذه الحال ، و بين تصفيق المحيطين ، حتى أتخم الرجل ، و هربت منه أنفاس الحياة ، فارتمى أرضا ، و سحب كرمة إلى الخارج . الموسيقى تؤدى دورها ، في الإمتاع و الصخب!
كانت قاعة تشغل فدانين و أكثر ، مغطاة بالمرمر ، و القيشاني ، و العاج الطبيعي ، وربما بجلود نسائية ..و تمتد على حوائطها إضاءة فيروزية ، و كهرمانية ، و بعض المقتنيات التاريخية ، التي عرفت فيما بعد ، أنها جلبت من هنا وهناك ، من قصور القدماء ، وتوابيت الفراعنة !
المدعوون يترنحون على مقاعدهم الوثيرة ، و لا تكاد ترى طاولة إلا و بها سيدة كملكة متوجة !
كانت وصلة غناء و رقص ، لفتيات ما نالت منهن حكايات ألف ليلة و ليلة ، و لا كانت في جمالهن نساء ، القاعة غارقة في إضاءة نوعية ، لم أر لها مثيلا .. إلى حد أنى قلت : هل نحن في الجنة الآن ؟ “.
حدقني بنظرة ، همس ، وهو يبتعد عني : ” لا تبعد .. تمتع فقط “.

حين راحت كل فتاة ترفع عنها خفيف ما تلبس ، كانت القاعة تنغمس في البحث عن الأماكن الحساسة ، فيمن تجلسن حول الطاولات .
كانت رأسي تحتشد بآلاف الأسئلة ، و آلاف المرارات ، و أنا أحرك رأسي كأني أصبت بخبل أو جنون ، باحثا عن من يوقف هذا القتل ، الذي رأيته صغيرا ، حين شدتني فحولة المراهقة إلى مخزن تحت ألأرض ، حيث تجمع الشباب ، و كان فيديو .. وكانت متعة الرؤية في ذاك الوقت !
شاشات العرض تتناثر في أرجاء المكان ، وخيوط قزحية ترتمي على الوجوه ، و تفرشها بالخيالات و الظلال .. أشعر أن ما يميز المكان العيون ، كله عيون مفتوحة ، عيون لوحش خرافي ، ما طالعته العصور على اختلاف تنوعها وولاداتها!
لم أجد رأسا فيمن يجلسون ، و لا قاعدا ، كل تهالك ، كل تعرى .. حتى أني ما عدت متيقنا ، أن هذا المكان ينتمي إلى بلد أعرف ، وهنا لم أستطع الاستمرار في إمساكي ، قبضت على جسد زجاجة ، و في كأس صببت نقطتين ، مع ماء مثلج ، شربت . كان أمر معدتي يشغلني ، كنت مازلت أعي من أنا إلى هذه اللحظة ، التي بانت فيها الأثداء ، كأني ما رأيت ، و لا عاشرت امرأة ، و لا حتى قرأت شيئا عن أي شيء .. لم تسعفني الكأس .. كأن نارا من الحقد استعمرت كل كياني ، الدخان هنا له طعمة ، وبهاء ، ليس كدخان سجائرنا الذي هرأ معدتي ، و فتك بصدري .. النساء تتعرى ، الأرض تعوم في سحابة ناعمة ، شفافة ، طرية ، ترى فيها كل ما يدور ، كأنه عالم آخر ، لمكان تحت الأرض ، فتنالك الدهشة ، و تقتلك المفاجأة !
و أنا أبحث عمن يوقفهن .. الصخب يعلو .. يعلو ، يطغى على كل شيء ، و الموسيقى تتهادى في نعومة قطرات ندى مذابة بنسائم ليست من هذا العالم بأية حال!
تظهر امرأتان ، فارعتا الطول ، قويتا البدن ، تتبختران ، و تأخذان بساقيي إحدى الفتيات الراقصات العاريات ، و تقلبانها ، و تفسحان ما بين فخذيها ، و تقومان بإفراغ زجاجات الويسكي واحدة بعد أخرى ، و الصخب يعلو بشكل فوضوي ، ورعونة مالها حدود ، و لم تتركنها ، حتى انبثقت من بين الفخذين نافورة بين تهليل ، و شرب بالكف ، وضحكات ماجنة .
رجال يلبسون أقنعة ، و بطريقة عجيبة ، و بعد وقت يسير تكتشف أنهم نساء ، ما رأتهم الأرض من قبل ، و لا اكتشفهم أحد
حين يتخلين عن كل ما يعلو جلودهن البضة!
تخلت عني حكمتي ، جرعت من الزجاجة ، جرعة واحدة ، فصهلت رأسي ، الصور تطاردني ، صور الفقر ، و العراة ، و العالم هناك خلف هذا القصر المنيف ، ومدينة شائهة ، تموت في برك الموت ، والمرض .. يالرأسي وجنوني!
علا الصخب ، و علت المخالب ، و امتلأت القاعة بأكداس من الدولارات ، تتحرك كسحاب ، و تتهادى كريش مهيض .. فما عدت أرى ناسا ، زجاجات .. و أوراق .. و أجساد تخلت عن أثدائها .. و خصرها .. و بض لحومها .. لوحة ما استطاعها بيكاسو أو أي من المغامرين!
هنا كنت فقدت القدرة تماما ، على التماسك ، صرخت :” يا أولاد الكلب .. يا أولاد الأفاعي .. مجرمين .. سفلة “.
و أخرجت دون وعي مني علبة ثقاب ، و أشعلت نارا في ستارة قريبة مني ، أفرغت عليها زجاجة الويسكي ، ثم علا صخبي ، و أنا أتهالك ، و أقعي هنا وهناك ، و أركل أي شيء يصادفني ، حتى زجاجات الويسكي ، كنت في أحضان واحدة منهن ، فألقت بي فزعة ، فسارعت إلى الأجمل ، أحتضنها بقوة ، فأشم رائحة مخدر نفاذة ، و هي تتطوح بين ذراعي ، مستسلمة حينا ، متمردة كفرس حرون تارة أخرى ، ثم في رعونة أجذبها ، و أحاول إبعادها عن الأنظار ، و أنا أصرخ فيها ، و لم أتركها حتى حملني رجلان ، واتجها بي إلى الخارج ، و كبيرهما على رأسيهما ، كل ما رأيته وجها ضخما ، علته ندوب ، أظنني رأيته من قبل ، أكان أحد الوجوه المهمة في جهاز الأمن ، أم من عتاة المجرمين ؟!

بعد يومين أو يزيد أفقت ، أدركت أني بالمشفى ، أعالج من كدمات و حروق ، إلى جانب نزف من معدتي نتيجة الشرب ، و الكم الهائل من الطحن ، و الذي نلته على أيدي رجال المكان الميامين !
قالوا .. أو قالت تلك التي تدعى زوجة :” سال عنك سيادة المليونير ، لولاه لمت هناك “.
اغتصبت بسمة :” و هل أنا حي .. أأنت امرأة .. أنت امرأة ؟!”.

حين عادني مرة أخرى ، أومأ برأسه ، ابتسمت و هززت رأسي بالموافقة ، فرفع إصبعه ، خلص رزمة من أوراق بنكنوت ، ألقاها كما نلقي بشيء خرق ، انصرف ، وهو يردد :” نمت كثيرا .. يكفى هذا “.
رغم ما ألم بي ، و ما تعرضت له ، قررت وسط ذهول من يطلقون عليها امرأة ، أن أكمل ما بدأت ، و ألا أخرج من جلدهم حتى أقشره تماما ، و ربما أشعلت في أبدانهم جحيما على طريقتي!
خطفت نظرة منها ، كانت في حالة يرثى لها ، اختطفتها ، أسكنتها صدري ، ودموعي تجري دون توقف :” سوف نعيش .. نعيش .. كوني أكيدة من ذلك “.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!