لو لم تكن الأرض مدوّرة، لحملتُ كيسا ًورقيّا ً أبيض، يحوي تشكيلة “موالح”، يغلب عليها “بزر دوّار القمر”، و يندر الفستق واللّوز، لأسباب ماديّة بحتة.
و لحملتُ في إبريق حافظٍ للحرارة قهوة ساخنة، غنيّة بالهال، خالية من السّكّر.
سأنتظر في محطّة انطلاق الحافلات، يأتي بعد قليل باص صغير، يحمل لافتة كُتب عليها:”حافّة العالم”، سأجلس على الكرسيّ الملتصق بظهر كرسيّ السّائق، يدور رأسي من وضعيّتي المعاكِسة، فأشعر بالغثيان، يعرض عليّ شاب وسيم يجلس قبالتي أن نتبادل الأمكنة، وبعد قليل، نتبادل النّظرات والابتسامات، ثم ّأرقام الهواتف المحمولة وحسابات “الفيسبوك”!
سيفوّت الشّابّ محطّته عمداً، ويصرّ على مرافقتي حتّى المحطّة الأخيرة.
هنا، عند الحافّة سنجلس معاً، يمرّ “أبو فهد” ملك الشّاي متثاقلا بدرّاجته، فيشتري صديقي لنا كأسَين، أقبل بسرور، أيضاً لأسباب ماديّة بحتة، لن أتذمّر من الكأس المتّسخة، ولا من الشّاي الغامق المرّ، سيكون أطيب كأس شاي في حياتي .
ولأنّ صديقي يعاني رهاباً من الأماكن المرتفعة، فسنجلس متلاصقين و يدُه تعبث برفق بضفيرتي حبل أمان، سيسرح في عينيّ، ويتأمّل شفتيّ، كي لا يلمح الهاوية.
سنتحدّث كثيراً، أناوله حفنة “موالح”، ثمّ أدلّي قدميّ على الحافّة، أقرط الفستق واللّوز بسعادة ملء فمي، أفصفص “البزر”، وأجرّب متعة تفتفة القشورعلى الأرض حولي.
بينما نشرب القهوة، تميل الشّمس للغروب، ويميل رأسي بدلال على كتفه.
تزحف غيمة نحو كبد السماء، وتزحف ذراعه ببطء نحو خصري.
سنتحدّث همسا ً بأمور مختلفة، خطيرة ممنوعة، حميميّة دافئة.
سيخبرني أنّه يحسن قراءة الفنجان، أطبّ فنجاني بشكّ، فيقرؤه بيقين، يشير واثقاً إلى مساحة بيضاء في الفنجان، يخبرني عن فُرجة واسعة، يحدّثني بحماسة عن فرح وشيك .
أبتسم.
أطأطئ، أفكّر.
أضحك بصوت مرتفع حتّى تهطل دموعي.
وعندما يحزن أنظر في عينيه، أعانقه، أقسم له أنّني لا أسخر من تنبؤاته، بل أصدّقها بجوارحي كلّها، أقبّله من شفتيه قبلةً مفاجئة، طويلةً عنيفة، تثير دهشته وشهوته معاً.
سأصبّ قهوة جديدة ساخنة في فنجاني، أقف قربه، أشرب رشفةً عند الحافّة تماماً، فيمتلئ فمي بالمرارة، مرارة مألوفة، قديمة.
سأبسط ذراعيّ إلى جانبيّ كما تفعل “روز” بطلة الفيلم في مقدّمة سفينة “تايتانيك”، أسمع نداءات الرّيح مجنونةً عبر الهاوية، مختلطةً مع همساته المتيّمة تخبرني أنّه أحبّني، وأنّ في عينيّ هاوية!
سأحدّق في عينيه، أفكّ ضفيرتي، أبعثِر شعري.
أخطو خطوة.
أحدّق أكثر، أنزع حذائي.
خطوة ثانية.
أخلع ملابسي، قطعةً قطعةً.
خطوة ثالثة.
نظراته المتشهّية، وأصابع الرّيح تدغدغان ظهري العاري، تغويانني.
خطوة رابعة.
هنا، تماماً عند حافّة الدّنيا، أقف أنا، أنا التي أشبهني، كما لم أكن من قبلُ أبداً، حرّة من عقلي، ومن ماضيّ.
هنا، عند الحافّة، تبلغ الأشياء كلّها ذروتها، تنبض، تنبض، تنبثق بجنون من مكامنها.
في برهةٍ، أشعر بالخفّة، بالعدم، أتماهى شفّافة مع مساحة بيضاء، أذوب بسرعة في فُرجة واسعة، وأكاد أتشظّى بفرح وشيك.
وفقط عندما يشهق هو، وتشهق القهوة، والحافّة، سأدرك أنّني.. فعلتها!