الرفيم الأول
الناموس الثاني
من عليائه يرقب الإله إيل العابرين إلى فلسطين ، يرقبهم واحداً واحداً وهم يحملون قرابينهم نحو معبده في ذروة الجبل عند منبع النهرين ، قرابين يحملونها على رؤوسهم وعلى دوابهم وعلى عرباتهم ، قرابين تمتد مابين البائس والثمين ، طيورا وحيوانات ومأكولات ، ذهبا وجواهر وأحجارا كريمة ، عطورا وملابس وبهارات ، لكن الإله لم يجد فيها تعبيرا عن إحساسهم بعظمته ، وفهما أرقى لمعنى ألوهيتة .
يأتون حجيجا ضارعين ، آملين من الإله إيل أن يأذن لهم بالبقاء مواطنين في فلسطين ، لكنهم كانوا عابرين ، لم يمكثوا أكثر مما وسعتهم خطواتهم العابرة من تلكؤ . فالإله هوالذي يختار ساكني أرضه المقدسة .
من بعيد ، يطل عابر أعياه ما يحمل على رأسه ، إناء مملوء بالدم القاني ، سكبه قومه طازجا من عروقهم التي فصدوها حتى امتلأ الإناء ، وهم يرتلون { أيها الإله إيل ، هذا ماء الحياة ، إنه قربان لا يوهب إلا لإله }
اغتبط الإله إيل وهو يرى هذا القربان الثمين ، ذي الدلالة العظيمة ، والرمز الموحي ، فأي شعراء هؤلاء القوم الذين تساموا فوق المحسوس والمعدود والملموس ، وتناولوا لغة القلب والوجدان ، فحق لهم أن يعبروا قلب الإله إيل قبل أن يعبروا إلى فلسطين .
ها هو رجل آخر ، يجيء حاملا فوق رأسه إناءً مملوءاً بالخمر ، يحاول جهده أن يسبق غيره نحو المذبح ، ليقدم قربانه ، لعله يفوز ، كان اللهاث قد أنهكه ، حينما رأى قربان الدم الرائع ، أدهشته الفكرة ، فأيقن أنه مستثنى لا محالة، فقال متمحكا :
– ماهو قربانك ؟ لعلك تحمل ما أحمل ؟
ولم يشأ أن يجيب عن سؤال سخيف ، يقطع عليه ابتهالاته .
– كنت أظنك تحمل خمرا كما أحمل ؟
تجاهل تمحكاته وراح يرفع إناءه فوق رأسه والعابر يسأله .
_ ألا أعينك ؟
لم يمانع كثيرا ، لكنّ ذا الخمرة أضمر حيلة ، أضمر أن يوقع الإناء عن رأس صاحبه ، كي لا يتركه يمضي بالقربان إلى المعبد ، وهكذا فعل ، حيث أوهى يده من تحت الإناء فانقلب وسال القربان على الأرض ، فامتصه التراب بشراهة ، واكتسى بلونه الأحمر، تفطر قلبه على قربان لم يصل ، راح يفكر بالانتقام ، هب إلى إناء الخمرة فركله ، فانسابت الخمرة في شقوق الأرض ، تصارعا ردحا من الزمن، حتى أنهكهما العراك ، والإله إيل يرمقهما وكأن له في ذلك شأناً.
ذهب ذو الخمرة نحو بساتين الكرمة يعصر من عناقيدها سلافا رائقا ، يعبئه في إنائه بعيدا عن غريمه ، ويمضي به نحو (منبع النهرين) ، وبسفحه على المذبح ، تاركا غريمه حائرا فيما يفعل ، يأكل مهجته القنوط، متعجبا من دهاء ذاك الذي عوّض تلك الخمرة المعتقة بعصير أحمر ، فكيف يسترد من التراب دم قومه الذي لن يعود ؟. وكيف أستطاع هذا الآبق أن يخاتله ويدمر طموحه وطموح من أرسلوه؟
انتظر هذا المسكين طويلا ، فلا يمكنه العبور أو المكوث أو الرجوع إلى قومه ، ليشرح لهم خيبته ، فلا مناص إلا أن يقفز نحو السماء أو يغور في باطن الأرض ،
ذات صباح في آذار ، أفاق فوجد الأرض حمراء كالأرجوان ، لم يجد معنى لزهر الحنون الذي غطى الأرض ، إلا أن الأرض قد لفظت قربانه على هذا النحو أو أعادته إليه . هم بجمع الحنون إلا أن الإله إيل هتف له من معبده :
{ قبلنا قربانك ، وجعلناك كما تشتهي فلسطينيا ، ستبقى هنا وغيرك هم العابرون }