لأفاق حرة
ضوء في الشرفة/ قصة قصيرة
ريما آل كلزلي
كنت أراها دائمًا تجلس عند شرفة غرفتها، امرأة نحيلة بوجه شاحب، وعينين مثقلتين بالأسى. كانت تلف جديلتها على راسها كطوق، وتحتسي من كوب يلفّه بخار متصاعد. منذ أعوام مضت، وهي تخرج إلى شرفتها الصغيرة كلّ مساءٍ، تحمل بين يديها فستانًا أبيضَ يلمع ببريق لؤلؤي. كانت تعلقه برفق على حبل الغسيل الذي امتدّ بين شرفتها وشرفة الجيران. تمسك المشابك بيدين مرتجفتين، وكأنها تخشى أن يفلت الفستان وتخطفه الريح. بعد أن تنتهي، تقف للحظات تحدّق فيه، تعدّل طياته بعناية، تتأمله بصمت، ثم تعود إلى الداخل تاركة وراءها هالة ترفض أن تغادر الشرفة، كأنها تركت جزءًا من روحها هناك.
في البداية، ظننتُ أن الأمر مجرد عادة. كلّ فتاة تغسل ملابسها في وقت يناسبها، تنشرها، وتعود لتتابع يومياتها التي اعتادت القيام بها. الذي لفت نظري وأثار فضولي أنها كانت تخرج في الوقت ذاته كل مساء، تحمل الفستان ذاته، وتعلقه بالطريقة ذاتها. لم أكن أفهم أن وراء هذا الطّقس ثمة حكاية كانت تختبئ، كأنها طقس مقدس أكثر منه عادة يومية.
ذات ليلة، قررت أن أخرج إلى شرفتي في الوقت الذي أعرف أنها ستظهر فيه. وضعت كوب الشاي على الحافة، وأشعلتُ سيجارة، متظاهرًا أنني أراقب الشارع. لكن عينيّ كانتا تبحثان عنها.
ظهرت في موعدها المعتاد، تحمل الفستان الأبيض بين يديها كأنه كنز ثمين. علّقته بحرص، وعدّلت طياته كما تفعل كل ليلة. هذه المرّة، لم تعد إلى الداخل، وبقيَت في الشرفة. لمحتها وهي تسحب دفترًا صغيرًا من جيب فستانها المنزلي، وجلست على الكرسي البلاستيكي الوحيد في شرفتها تقلب صفحاته.
ترددت قليلًا، ثم قلت لها بصوت خافت:
– لماذا تفعلين ذلك كل ليلة؟ سألتها دون أن أنظر إليها مباشرة.
التفتت إليّ ببطء، كأن سؤالي جاء من عالم آخر. ثم ابتسمت ابتسامة باردة، وقالت:
– لأنه ينتظر.
– من ينتظر؟
أشارت إلى الفستان المعلق على الحبل.
-هو، ينتظر أن يعود صاحبه ليأخذه.
-صاحبه؟ قلت بدهشة لم أستطع إخفاءها.
تنهدت، ثم أخرجت صورة قديمة من دفترها. نظرت إليها بعينيها الممتلئتين بالحنين، وقالت:
-كان يقف هنا، تمامًا في هذه الشرفة. كان يحتضنني بنظراته ويقول لي: “سأشتري لكِ فستانًا أبيض، وأجعلك أجمل عروس في المدينة”، ثم ذهب، قال بأنه سيعود قريبًا، وإنّ الحرب لن تسلبه سوى بضعة أسابيع عن الموعد المنتظر، لكن الحرب أخذته، وأخذت معه وعده.
صمتت للحظات، كأنها تحاول أن تلتقط أنفاسها، ثم أضافت:
-اشتريت هذا الفستان بنفسي. أردت أن أريه كيف سأبدو وأنا أرتديه، وأردت أن يوصل له ضوء القمر انعكاس بياضه. لهذا أعلقه كلّ ليلة على الشرفة.
كانت كلماتها ثقيلة، كأنها تحمل حزنًا عمره ألف عام. مدت إليّ الصورة دون أن أنظر إليها في البداية. لكن عندما فعلت، شعرت بصدمة تسري في عروقي. كان الرجل الذي في الصورة زميلي. الرجل نفسه الذي مات أمامي في المعركة.
تجمدت. لم أعرف ما الذي عليّ قوله. شعور بالذنب والكآبة اجتاحتني. أردت أن أخبرها، كما لو كانت الكلمات جبلًا جاثمًا على صدري. فاكتفيت بالصمت، بينما هي عادت إلى الداخل، وكأنها تجر جسدها بصعوبة.
في الليلة التالية، لم أرها تخرج إلى شرفتها. بقي الفستان الأبيض معلقًا وحيدًا، يتمايل مع الريح تحت ضوء القمر. شعرتُ بفراغ غريب. أين ذهبت؟ ما الذي منعها؟ في الصباح سألت عنها البائع في متجر البقالة في الطابق الأرضي، قال لي إنها غادرت الشقة فجأة!
عدت إلى نافذتي في المساء، ونظرت إلى الحبل. كان الفستان الأبيض لايزال هناك في مكانه المعتاد، ظلّ معلقًا لأيام، وأسابيع، كأنه ينتظرها، كما كانت تنتظر الرجل الذي أخذته الحرب.
وفي إحدى الليالي، عصفت ريحٌ قوية، اقتلعت الحبل، واختطفت الفستان الذي ظلّ يحوم في الشارع كطيف يبحث عن صاحبه. حاولت أن ألحق به، لكنه اختفى فجأة في عتمة الليل.
~ ~ ~