كتب القاص. إبراهيم صموئيل. الصناديق. قصة قصيرة

لآفاق حرة

الصناديق

قصة قصيرة
بقلم القاص. إبراهيم صموئيل. سوريا

لكزه الضوء المنسكب من صباح نافذته ، فأفاق نشطاً فرحاً تطلع الى النافذة فبدا له هذا الصباح أجمل من كل الصباحات الماضية التي كانت تهجم عليه وهو في عزّ أحلامه . نظر في ساعة يده :
الثامنة . بخفة وحيوية نهض يد لك ساقيه ، تمطى صوته مع جسده :
«اربع ساعات وأكون محلقا في العلالي! » . أشعل سيجارة ( حمراء قصيرة) ، وركن يغلي فنجان قهوة ، فانتبه الى أنه ، على غير عادته ، يدخن على الريق لكنه أبقى السيجارة بين شفتيه بعد ان استشعر لذة خاصة من الدخان الذي يلج سريعا. رئتيه ، ثم يخرج متباطئا يحمل فرحة صدره ويوزعها على أرجاء الغرفة .

رشف الرشفة الاخيرة ، ثم ضرب الطاولة بكعب الفنجان كأنه يهم برفع كأس عرق : « لأبدأ باكراً قبل ان يفوتني الوقت ، أشعل سيجارة أخرى، وجال بعينيه يرتب أغراض الغرفة التي سيعطيها لصديقه وليد قبل سفره كانت غرفة «رغدان الشيخ » أشبه بمستودع صناديق خشبية : خص صناديق الوسكي المتينة للكراسي .. وراكب صناديق التفاح متراصة القطع على . هيئة مكتبة بعد طلبها .. وجمع . ستة صناديق شكل منها طاولة مستطيلة .. أما « بار الاصدقاء ) – كما سماه وليد – فكان عبارة عن اربعة صناديق متناظرة ، معلقة في الزاوية ، أفردت لزجاجات ( الريان ) و ( الميماس ، وللكؤوس المتنافرة الالوان والاشكال التي كان اشتراها من معمل الزجاج اليدوي . وبين أثاث » الغرفة تناثرت صناديق ضمت رسائل وصوراً وأوراقاً وقلائد وأشياء كثيرة متفرقة ظلت لصيقة مفاجى، الى ان قرر السفر حين نهض ينوي افراغ الصناديق .. هبط قلبه ! رفعه ، وجر ساقيه اللتين داهمها ثقل مفاجىء، همس ينزل الوجبة الأولى من الكتب : « لا مجال .. انتهى الموضوع » سحب الدفعة الثانية فخلفت فراغاً معتما مغبراً تلامح فيه وليد الذي ظل يعارضه طوال فترة الاعداد للسفر ، تمتم يبلع ريقه : «طيب .. ولماذا أبقى يا وليد ؟ ! » نكأ تساؤله نقاشهما الطويل الماضي ، فنبر وهو يخلع مسامير الصناديق المثبتة في الحائط : « فهمت .. ولكن اعطني سبباً واحداً معقولاً لا ترك السفر ! » تتابعت في مخيلته سلسلة الحجج والاسباب التي عارضه بها وليد . انزل الصندوق العلوي محتداً : « لا تصرعني باسطوانتك التي حفظتها !! » شرح بيده يتابع تفريق الصناديق : ه نعم يا سيدي أنا أفهم الوطن خبز وجبن ومواصلات ومشفى وبيت ! » نزع مسامير الصندوق ودفعه الى وسط الغرفة أشعل سيجارة واستند الى الجدار ينتظر تبدد استيائه المباغت . ثم مال على صناديق الطاولة ، قلبها ففغرت أفواهها وبدت أفواه كائنات غريبة أصابتها الدهشة واقتحمها الرعب : «وماذا أجدت الاجتماعات والقراءات والحوارات وجلسات الشباب وسهر الليالي ؟ !! تفضل .. لا أكلنا عنب ولا قتلنا الناطور !! » زاح الصناديق فأزت وارتطمت بالأخرى المتكومة وسط الغرفة : « لا وفوق هذا ، صار الاكل بالوزن والكلام بالاذن ! » . سحب سيجارة يشعلها من عقب أخرى ، فلاحظ ارتجاف يديه. فکر يهدىء نفسه : ( طبيعي .. يعني ترك البلد سهل ؟! » ثم سارع يسد منافذ التعب الذي تسرب اليه : «يا رجل .. سهل أم صعب ، فالحياة هنا لم تعد تطاق ، عادت طمأنينته ، فاتجه نحو « البار » يفرغه ويفككه . أنزل الزجاجات والكؤوس فهمست رنيناً فارغاً ، ثم أخذ يخلع المسامير التي راحت تئز بين فكي الكماشة وهي تسحب من جسم الخشب . دفع الصناديق ، واتكأ على خاصرتيه ينظر فيما تبقى . بدت الغرفة منبوشة مثله ، مسح كآبة وجهه ، أشعل سيجارة ، وهم مندفعاً : نزع اللوحات المعلقة على الحيطان .. طوى الفراش والبطانيات كوم أوعية الطبخ .. نحى المسجلة والأشرطة ورقعة الشطرنج صارت الغرفة خليطاً من فوضى . توقف يتأمل فيما يأخذه معه ، فقرر على الفور : « لا شيء » . أفزعه القرار ، لكنه مضى يقاومه بجمع الصناديق وحشوها : لن أحتاج هناك شيئا من هنا » ضب المسجلة ورقعة الشطرنج والاشرطة في صندوق : « لا مارسيل خليفة ولا الشيخ امام » حزم الصندوق بالحبل ونحاه جانبا : « اسمعهما أنت وتذكرني … أنا مللت » قرب صندوقا فارغا وركع يجمع الرسائل والمجلات والاوراق والصور ويدسها داخله . لمح صوره مع منى . توقف يتأملها ، فهاجت أيامهما الماضية . شعر بوهن مباغت يقتنص اندفاعه . ابتسم بحزن مكسور : « هل صدقت الان یا منی ؟؟ كنت تقولين مناكفة : ولكني الياطر الذي يشدك فأين ستبحر ! أنت ياطري فعلا ولكن أنا الذي غرقت مثل سفينة تصدعت » أحس العرق يندي وجهه ، مسحه بظاهر كفه ثم نظر الى الساعة فوخزته :
التاسعة والنصف ! . نهض يلحق الوقت . جمع الكتب اعتباطا وعبأها بالصناديق ثم شدها . ألصق اللوحات بعضها الى بعض وراح يلفها بالحبل: « ولم الرسم ؟ أصغر دار سينما تغص بما لا تحلم به أكبر صالة عرض تضم أعمال فاتح المدرس أو لؤي كيالي ! وسد اللوحات فوق الصناديق المحشوة» . دحرج الفراش واتبعه بالبطانيات والوسادة ، ثم حمل صندوقا يملؤه بما بقي وتبعثر حين انتهى ، شعر ان الارهاق قد هذه . انسحب نحو باب الغرفة المغلق . أسند ظهره ورأسه اليه . تأمل الصناديق فبدت تلة من أفواه محشوة ومكمومة بالحبال ! دبت فيه رعشة مباغته فهمس : «لم أعد قادرا على البقاء » هيج همسه المخنوق حزنه ، فباح كأنه يودع صديقه :«صدقني يا وليد لم أعد قادراً ! سبع سنوات في المعتقل وسنوات في البحث عن عمل.. وأخرى في تأمين غرفة أسكنها وأخرى وأخرى في الركض والاجتماعات والسهر … يعني ما الذي عشته هنا ؟ !! »

هز رأسه وابتسم مرارة يفك أزرار منامته : « أريد ان أفهم فقط أي سفرجل هذا الذي سأندم عليه وأنا أغص بكل لقمة منه !!» راقه التشبيه فتضاحك وهو يتناول قميصه وبنطاله، ويخرج جواز سفره وتأشيرة الخروج يطمئن على وجودهما ، ثم استدار نحو المرأة التي ظلت معلقة على الحائط . في اللحظة التي صار فيها أمام المرآة وكاد يدخل يده في كم قميصه … سرقته دهشة غامضة !!

فر من شروده وتلفت حائر : «غريب .. ! لم لا أظهر في المرأة !؟» عاود النظر في المرآة فعاوده المشهد الراعب : سطح أملس يعكس بضعة من الصناديق وجزءاً من الحائط المقابل دون أن تظهر بينها صورته ! « مستحيل .. أين اختفيت !؟ » صرخ مرتداً الى الخلف ، ثم اقترب بحذر من المرأة كأنه يداني وحشا مفترسا . مد يدا مغلولة بالتوجس يمسح الغبار الذي تراكم على سطحها ، فلا بانت يده على وجه المرأة ولا انزاح الغبار! مذعوراً فرك عينية ، ثم اختلس نظرة واهنة : لا أحد ! اختلج يكذب عينيه بتلمس صدره فهوت يداه في فراغ أبكم .. صرخ مهووسا : « يا الهي كنت هنا قبل قليل ! أين اختفيت ! ؟ » جنَّ الذعر فيه وطفق يبحث عن ساقيه فلم يتبينهما ! من وهاد الخوف اندفع نحو زاوية الغرفة وهمس بصوت ابح : « رغدان !؟ » فما سمع صوته ! كذب أذنيه بصراخ صوته : رغدااان !؟ » غير ان الجدران امتصت صراخه وبقيت الصناديق قابعة وسط الغرفة فاغرة ، محشوة ، ومكتومة ! جابت عيناه الوجلتان خواء الغرفة ، فلاذت الصناديق فيهما انتفض ملتاناً . هجم على الصناديق يركلها ، فأنت وتدحرجت تقوس يقطع وثاقها ويقلبها وهي تتقيأ أجوافها دفعة واحدة مثل سكير لفحه الزمهرير . رفع صندوقا وألقى به ثم رفع آخر وآخر فتطايرت الرسائل والاوراق والصور والكتب والقلائد والاشرطة والرقعة وحجارة الشطرنج . اندفع يحل رباط اللوحات فراحت تتهادى متساقطة . انبطح بين الركام ينادي بصوت مهدود :
«رغدان . . رغدان !؟ » . بغتة .. لامست يداه شيئا طريا ، فسكن ! ثم ، واجفاً ، عاود التسلل باللمس .. فأحس تحت أنامله جسما لحمياً أشبه بالجسد الادمي ! جسه أكثر ، فتعرفه .. غير أنه كان محدداً كما لو أن وثاقاً فك عنه للتو . . !
……
من مجموعته (رائحة الخطو الثقيل)

أيار / ۱۹۸۷

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!