لآفاق حرة
لم تتمالك نفسَها وهي ترى الفرسَ من الشرفةِ تجاهدُ حتى تنهض، تتلقّى ضرباتِ الكرباجِ على عنقِها في قسوةٍ، لكنها لا تقوى على النهوضِ، وتبقى طريحةَ الأرضِ، تُصدرُ من جوفِها أنينًا موجعًا وكأنها تشكو ضعفّها، ترفعُ رأسَها في مجاهدةٍ لتلقي نظرةً على المهرِ الواقفِ إلى جوارِها، والمربوطِ بحبلٍ إلى ساقِها، يضربُ الأرضَ بحافِرِهِ، ويتشمّمُ في حيرةٍ جسدَ أمِّه الواهنَ.
اندفعتْ تهبط الدرج، قبضتْ على يدِ الرجلِ قبل أن يهوي بمقدّمةِ العكّاز على رأسِ الفرسِ الطريحةِ عرضَ الطريقِ، دفعها الرجلُ بعيدًا، وهوى على جبينِ الفرسِ لتسيل منها الدماءُ، لم تدرِ بنفسها إلّا وهي تنبش أظافرَها في وجهِهِ وتصرخ:
– حرام! كيف تفتري على كائنٍ ضعيف كهذا؟
اصطبغ وجهُ الرجلِ بالذهولِ لهجومِها الشرسِ عليه، وقال في محاولةٍ للدفاعِ عن نفسه:
– إنها تراوغ، مهرتي وأنا أدرى بها.
تجمع المارةُ على صوتِ العراكِ، يرمون المرأةَ بنظراتٍ مرتابةٍ، وكأن الجنونَ قد تجسّد أمامهم بشعرِها السائب وقدميها الحافيتين، وأمّها تنادي من شرفتها:
– اطلعي يا منى، أنا جهزت لك الشنطة!
لم تبالِ بنداءِ الأمِّ، وحاصرتْ صاحبَ العربةِ بنظراتها:
– سأذهب بك إلى قسم الشرطة.
عندها ترَك الرجلُ العكّاز من يده، وجثا على ركبته كاشفًا عن الأخرى المبتورةِ، ساكبًا ألوان الاستكانةِ على وجهِهِ، دار بنظراتِ عينيه بين الوجوهِ مستعطفًا:
– أيرضيكم وقف الحال هذا يا أسيادنا؟ من أين خرجت هذه المرأةُ لتحرض عليّ مهرتي وأنا صاحبها؟ أنا من يسقيها ويطعمها، وإن لم تنهض الآن فكيف يمكنني تدبر طعامِها وشرابِها؟”
سرتِ الهمهماتُ بين الجموعِ، برز صاحبُ المقهى من وسط الحشد:
– الرجل يسعى على أكل عيشه، افسحي له الطريق وارجعي إلى باطن الأرض، كفانا جنانًا!
– أتقصد أنني مجنونة؟
– لم نرَ من قبل امرأةً تتهجّم على رجلٍ بمثّل هذه الطريقة.
– ألم ترَ ما فعل؟
– صاحبها وهو حر فيها.
– أكونه صاحب الفرسة يعطيه الحقّ في ضربها بهذه الوحشية؟
– من حكم في ماله ما ظلم.
– هذا كائن حيّ يشعر ويتألّم.
– البهيمة؟!
ضجّتِ الأفواهُ بالضحكاتِ العابثةِ، أدارتْ نظراتِها الحانقةَ بين الوجوهِ العكِّرِةِ، ثم انسحبتْ منكّسةَ الرأسِ، ما كادتْ تخطو من بوّابةِ العمارةِ، حتى توقّفتْ لسماعِ صوتِ حشرجةٍ، سالتِ الدموعُ على خدّيها، ثم صعدتْ درجاتِ السلمِّ شبه منهارة، وقفتِ أمام بابِ شقّةِ أبيها الذي رحل قبل سنواتٍ، حيث تعيش أمُها المريضةُ مع أخيها وزوجه، وجدتْ حقيبتها التي حزمتها لها الأمُ موضوعةً أمام البابِ المغلقِ، جلستْ على الدرجِ تجهش بالبكاءِ، حبستِ أنفاسَها لصوتِ حذاءٍ لا تخطئ وقعُه أبدًا، توقّف الحذاءُ اللامعُ أمامِها، رفعتْ رأسَها في استكانةٍ، تلاقتْ نظراتُها بنظراتِ الزوجِ، ألقى إليها حذاءها الذي تركتُه خلفها أثناء الشجارِ:
– أين مروان؟
نادى على ابنها، اندفع الصغيرُ صاعدًا درجاتِ السلَّم في قفزاتٍ، ألقى نفسه في أحضانِ أمِّه، انهمرتْ دموعُها وهي تضمّه وتقبله:
– لنذهب إذًا!
حمل الزوجُ الحقيبةَ بيدٍ وقبض بالأخرى على معصمِها، يجرّرها وراءه هابطًا بها، وابنها يتبعُها عاقدًا إصبعه بخنصرِها، خرجوا من بوّابةِ العمارةِ الحديديةِ، شعرتِ أنّ كلّ الأنظارِ تراقبُها، والشفاهُ تنفرّجُ عن ابتساماتٍ متشفّيةٍ.
وصلتِ إلى الموضعِ الذي يحمل آثارَ دماءِ الكائنِ الضعيفِ، أصدرتْ من جوفِها أنينًا موجوعًا، سقطت مغشيًا عليها، لتصطدم رأسها بالأرض، هبط صغيرها إلى جوار جسدها ينهنه، ويسمح بكف يده دمعاتٍ انحدرتْ على وجنتيها.
**