كانت تحوم حول أحلام ” كفاح ” شبهات كثيرة ، ورغم ان ما تراه في منامها لا يخيب أبدا ويتحقق كما تفسره جارتهم بالظبط الا أنها لم تسلم من اتهامات الخلق بالنحس والرشل وانها لم تخلق الا لان تكون بومة ليس أكثر، كانوا يرونها نحسا يمشي على الارض إلى ذلك الحد الذي اضطرت معه ان تتجنبهم في الطرقات وتتوقف تماما حتى عن حكي الأحلام لأمها ولكنه توقف لم يطل ذلك أنها حلمت حلما خطيرا يتعلق بأخيها ” جمال ” الذي رأته راقدا على بطنه والرعب يملأ عينيه بينما كان أولاد فؤاد البنا يسنون سكاكينهم بهدوء فريد لم يغادر تقاسيم وجوههم الناعمة الرقيقة التي يحسدهم الناس عليها دوما وأخذوا يطمئنون كفاح على جمال بعد أن صرخت كفاح قائلة أن جمال يحبهم كحبه لها ، يحبهم كثيرا ويحب اللعب معهم رغم فارق السن بدليل انه صنع لهم جرارات زراعية من الطين غير مرة دون مقابل ، لقد بذلت مجهودا رهيبا في الدفاع عن أخيها الذي ذبحه الأولاد على حين فجأة عندما كانت تشهق وتزفر والعرق يجري على جبينها، وصرخت منكبة على أخيها وجهدت تفتش رقبته التي كانت قد فتحت تماما دون خروج نقطة دم واحدة،انطلقت تصرخ صراخا شديدا ولم تشعر بنفسها إلا مع نهاية الليلة التي انفقتها كلها تخرج وتدخل في نوبات إغماء متواصلة تهرع فيها إلى سرير جمال حتى تتأكد أنه لم يذبح بعد ولم تهدأ “كفاح” حتى ذهبت معها أمها إلى الجارة مفسرة الأحلام التي أغلقت التليفزيون لتقص عليها كفاح ما رأته في منامها الذي مصمصت الجارة شفتيها بفضله قائلة
– كان لازم يخر دم، خير اللهم اجعله خير ، ربنا يستر
وتلك المرة الأولى التي ترد الجارة فيها ردا مقتضبا منهمكة في سحب حفنة تبغ من ورقة دخانها ثم برمت سيجارة في سرعة شديدة فاتحة التليفزيون مرة أخرى معلنة إعجابها بخطاب الرئيس السادات الذي كان يسرق لب غير قليل من الناس عندما يخطب ويتحدث ويغني كما يغني المغناوتية في الأفراح والليالي الملاح ، كان يتحدث كما يتحدث الناس على الترعة والمصطبة ، وكانت تسحب الجارة الأنفاس صائحة
– هو ده الكلام ، هي دي المريسة اللي مش هيتغني في عهدها لا يمكن يتغني أبدا، يارب اغنينا من فضلك يارب .
هكذا انتهت المقابلة وخرجت الأم قابضة على يد ابنتها النحيلة التي ارتعشت فجأة عندما رأت المعلم فؤاد البنا فارشا امام داره الواطئة المبنية بالمونى الخضراء، ذلك الرجل الذي كان حريفا عارفا بفن البناء معرفة خاصة ، كان لا يستخدم المقاييس والموازين في ضبط البناء ، بل كانت عينه هي الميزان والمقياس ، كان يتحسس البناء بيده الغليظة الخشنة ويجسه كما يجس الفلاح بهيمته المشكوك في أمر حملها ، وكان أولاده يساعدونه ذكورا واناثا صابرين على نصيبهم ، يتمنون ان يوفق الله أبيهم في سفرية من تلك السفريات التي يعود بعدها الناس بالتليفزيون والمروحة وفوق كل ذلك المال الذي جلب معه الطوب الأحمر والمونى الاسمنتية القوية التي صنعت فارقا اجتماعيا رهيبا بين دار المعلم فؤاد وشتى البيوت المجاورة ، ثم مرض البنا فجأة وكبرت بطنه واصفر جلده وأخذ يجلس يوميا أمام الدار يودع الدنيا ويتأمل الرطوبة والماء المتسلل تحت جدران داره الهزيلة كيد كفاح التي انسابت من يد أمها قاصدة المعلم فؤاد الذي كان يتحلق حوله أولاده جميعا بربطة المعلم ثم وقفت خلف رأس الرجل ترتعد في مواجهة الابنة الكبرى ، تلك الفتاة البيضاء كالقطنة، الحمراء كالشربات الداكن بفضل ضربات الشمس التي تستقبلها أثناء ساعات العمل الطويل ورغم كل ذلك لم يفلح الشقاء في محو جمال الأولاد وحسن أصلهم، كانت الابنة تعبث في ضفيرتها الشقراء المتدلية على صدرها المشدود تحت فستانها النصف العمر ، تتأمل هيئة كفاح الغريبة التي جعلت المعلم فؤاد ان يدير وجهه لها قائلا بنبرة منهكة
– مبتقعديش وسط أخواتك ليه يا كفاح ، ابوكي جه من السفر ولا لسة
ثم رمى الأم بنظرة يأس هاششا ذبابة مزعجة كانت تتنقل بين عينيه ثم قال
– لو أمر الله نفذ قبل ما ييجي يا أم جمال وصيتكم العيال .
– عيالك هيدبحوا جمال ومش هيخر دم
هكذا قالت كفاح باكية منطلقة نحو أمها تختبئ في جلبابها وتراقب ردود أفعال الأولاد خاصة الابنة الكبري التي أحمر وجهها كثمرة الطماطم ضاربة بقبضتها في عجينها ضربات متتالية دون ان تنطق كلمة واحدة وانسحبت كفاح وامها دون تعليق يذكر من قبل المتهمين الذين كانوا تائهين في مرض أبيهم غير مهتمين بأقاويل كفاح وتخاريفها التي لا تتحقق إلا بالصدفة،مجرد صدفة وفقط .
ومات المعلم فؤاد وحمل الأولاد السبعة إرث أبيهم وصنعته وعاد أبا جمال من سفره بأموال كثيرة وكان قد هم ان يرفع الطابق الثاني دون إبطاء، وأخذ يشرح لأم جمال أمام اولادها عن خطته المستقبلية في تعديل الدور الأول وتقسيمه إلى دكاكين توازي تلك الموجودة في الخليج العربي ، ولم تعجب تلك الفكرة كفاح التي اتهمها الأب بالجنون عندما طلبت منه ان يرد إلى أولاد فؤاد البنا أموال أبيهم الذي كانت سببا رئيسيا في ان يعرف أبيها سكة السفر ، هكذا تمسكت كفاح بموقفها وكانت تنطق كلماتها المرتبة كما يتحدث مذيع الراديو كأن رسول يلقنها تلك الكلمات التي كانت تجعل الأب يضرب كفا على كف قائلا لنفسه من أين تأتي البنت صاحبة العشرة أعوام بذلك الكلام وكان يوم اسودا مهببا يوم ان أدخلها المدرسة التي تعلم الأولاد الخيبة والكلام الفارغ ، نعم ، كان يرى الأب الحق كلاما فارغا وكان يرى أنه ليس ظلما أن يحتفظ بأموال اليتامى عاما واحدا ، ماذا سيحدث ،ان استثمار المال في بيته افضل من ان يلقيه هكذا في يد أولاد سذج خاصة ان كبيرتهم على وجه زواج وسيجعلها ذلك المال مشاعا للعواطلية والطامعين ، لا لا ، سيستثمر المال عاما واحدا حتى يكتمل شارب جمال ويتزوج البنت التي ستكون قد نضجت هي الأخرى حتى تستوي وتطيب وتسقط فجأة في حجر جمال دون تعب او مجهود من الأب ، جمال الذي كان يرى كلام أبيه كخطبة السادات التي لا يفهم منها شيئا الا تصفيق الحضور وصياحهم في جنون كصييتة المشايخ الذين يقومون ويقعدون لا يدري احد لماذا ، جمال الذي كان يغضب كلما أنقطع برنامجا او فيلما حتى يخطب السادات في الأمة ليطرب الكبار ويعكنن على الصغار الذين كانوا يغوصون في النوم كلما جاء أو ظهر ، وكان النوم في تلك الليلة نوما عميقا حتى استيقظ الجميع على هبدة قوية ، كأن شيئا ضخما قد تردى من أعلى وسقط على الأرض سقوطا مدويا ، انطلق الناس في الشارع وكانت ضجة كبيرة عند دار المعلم فؤاد ، ولم يمر وقتا طويلا حتى تجمعت البلدة كلها أطفالا ورجالا ونساءا يرفعون أنقاض الدار ويصرخون
– لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله
تسلل كفاح وجمال عبر الناس حتى وصلوا إلى المقدمة والأب يتصدر مسرح العمليات ويصدر التوجيهات زاعقا
– العيال جسمهم سخن ومفيش دم ، العيال مماتتش ، الحيطان خفيفة ريشة لا يمكن تموت العيال
قالها بنبرة واثقة كثقته تماما في أنه الوحيد الذي يتقن الغسل والتكفين ورص النعوش ، سيغسلهم على السنة وسيدفنهم كذلك أيضا في أعماق الأرض وكان ركاما من الملابس قد تشكل بجوار النعوش ، ملابس ممزقة وأحذية أيضا،وكان الأب يتنقل بين النعوش ويتابع عملية الغسل والجميع يحملق في الاجسام التي لم تتيبس بعد بل كانت طرية تدب فيها الحياة وكأنها نائمة وليست ميتة ، إنها تحمل كل علامات الحياة ، لم يفلت ولدا واحدا من الموت وذبلت كفاح على ذبولها وقلقت فوق قلقها واخذ عقلها يستدعي الحلم استدعاءا قهريا وكان رعبا وخوفا رهيبا يحتل كيانها كله حتى حلمت حلما جديدا ورأت شتى المشاهد التي حدثت حقيقة أثناء الغسل وكانت الصور جد بطيئة ، كانت ترى الأب يجس رقاب الأولاد ويفركها ويغسلها غسلا جيدا ، كأن الموت يكمن ها هنا في مكان ما من الرقبة، ثم رأت الأب ممدا على الخشبة الثامنة وكذلك جمال على التاسعة وأغلب من حضر الحادثة ، حتى أصبح العدد على الأقل فوق الخمسين ، ولم يبقى في الجامع موضعا واحدا لنعشا جديدا ولم تقوى كفاح أن تقص ما رأته وقررت ان تكافح صامتة مقاطعة الأب مقاطعة تامة، ذلك أنه لم يكن أمينا ولولا حجبه المال عن الأولاد لكان لهم بيتا قويا متينا، يبدو ان الحلم الأول لم يكن يتعلق بجمال نفسه ولكن الحلم الأخير نتيجة الأول، كانت تشم رائحة الموت تتسكع في سائر أركان شارعهم بالذات وكانت تراقب النسوة اللاتي يحملن حلل الماء الممتلئة بالماء المنسكب بعضه فوق رؤوسهن ، ثم يضعن الحلل على الارض ثم تأتي الشبة لتقوم بدورها في محو عكارة مياة الترعة المسكرة وكانت للمياة في ذلك اليوم رائحة مميزة كانت تمشي خلفها كفاح حتى وجدتها تملأ بيتهم الذي كان يكتظ بالحلل والطسوت وكانت الأم تذهب وتعود وعلى رأسها اناءا جديدا ، وتراقب كفاح أبيها الذي كان يضع يده دون عمد على رقبته ثم ينزل بالشبة في الإناء ويأخذ يقلب ويقلب ثم يشرب منها قائلا
– المية طعمة قوي زي ماية الورد
ولم تذهب الشمس حتى امتلأت مستشفى المركز بحالات تسمم كثيرة وقد أخذت تلك الشوطة عشرات الأرواح ، وكان الأب على رأسهم بعد إصابتهم باسهالا شديدا حتى ظنت الحكومة ان الكوليرا قد عادت من جديد وذبلت البلدة وانطفئت انطفائا مرعبا وحبس من تبقى من الناس أنفسهم خوفا من الموت ولم يعلم أحد السبب فيما حدث حتى الأن، انهم يشربون من الترعة دوما دون ان يحدث شيئا ،ثم أفرجت الحكومة عن البلدة بعد حصار دام أسبوعا كاملا بعدما باتت على يقين انه لا يوجد بها ثمة اوبئة او أمراض، تسمم ، هكذا قالت الحكومة ، وكانت أصابع الاتهام تتجه للمياة رغم التحاليل التي حكمت لها بالبراءة ولكنه التسمم ، التسمم وفقط، لقد فلت من فلت بأعجوبة خاصة جمال الذي كانت ترى كفاح في نجاته معجزة ولم يطمئن قلبها حتى اكتمل شاربه وتزوج بفتاة من شارع أخر تسكن في بيت بالمونى الخضراء حيث لم يفلت من شارعنا ذو الطوب الأحمر إلا أسرة كفاح باستثناء الأب الذي ترك إرثا ثقيلا على صدرها ، تذكر أخيها دوما بما حدث وتنصحه ، بأن يتصرف كرب طالما يملك المال ،يتصرف كأم ، يتصرف كملاك يروي عطش الناس، وألا يفكر أبدا في رفع طوابق جديدة.