3 تموز 2020
الساعة 9:02
يُدفع سريراهما جنباً إلى جنب.
يركض السقف في عينيه إلى الوراء و تهرب معه الأحلام والأضواء الشاحبة.
تسري في جسدها رعدة، تمد يدها، تلتقط يده، تشبك أصابعها بين أصابعه، تنطر إليه، تبتسم رغم الدموع التي التمعت في عينيها، ينظر إليها نظرة تائهة، تعلق في شفتيه كلمة ذابلة.
تتأمل وجهه الضامر، ولونه المصفر، وروحه المنطفئة، تشد على يده، تبتسم مرة أخرى وتقول : أحبك.
يبتعد السريران، تفلت اليدان، يشيعها بنظرة زائغة.
يدخل كل منهما إلى غرفة مليئة بالأجهزة والأنابيب، ومشاجب المحاليل وأكياس الدم، تصطف طاولات مكتظة بالملاقط والمشارط والمقصات والحقن. تستقبلهما أطياف بسترات بيضاء وأخرى خضراء،
ابتسامات وعبارات تشجيع وطمأنة تتسرب من خلف الكمامات، لكن العيون التي تطل من فوقها لا تخلو نظراتها من قلق. تذوب التفاصيل أمام عينيه، تتشوش الرؤية، وآخر ما يتذكره وجهها الجميل.
آخر ما تتذكره، صوت مختص التخدير، وطيفه قرب رأسها، تمتمته بآياتٍ من القرآن بلكنة أعجمية مكسرة، شبح زوجها على السرير المجاور، انطفاء عينيه، وآخر تمتماتها : ….
خلال لاوعيها، رأت نفسها تركض طويلا في حارتهم القديمة، تكتشف أنها فقدت خاتم زواجها، ترتجف، تبحث عنه في كل مكان، تتوه في متاهة الأزقة، تبكي، تتنبه إلى بطنها الذي أخذ يكبر، تتحسسه، تشعر بنبض في داخلها، يدق قلبها بشدة، لم تختبر هذا الشعور من قبل، يباغتها ألم المخاض، ينفجر بطنها عن كثير من قطع السكاكر الصغيرة…
في هلوسات التخدير، وجد نفسه في دوامة أفعوانية، تنزلق به في نفق الذاكرة، تتوالى الأحداث والصور أمام عينيه، يستعيد طفولته، بيتهم القديم، موت والده، يرى والدته، جده وجدته حول النعش، يقترب، يلقي نظرة، يرى نفسه مسجى على النعش، يرتعد، نظراتهم نحوه منكسرة، شفاههم تتمتم، لا يفهم ما يقولوه، ولكنه يدرك أنهم يسألونه معروفًا، تمتد أيديهم نحوه، يشعر بها تبحث في أحشائه عن شيء ما…
تمر الساعات… في الغرفتين، الرؤوس ذات الكمامات تومئ، الأيادي ذات القفازات تتبادل المشارط، تعمل بمهارة ودقة عالية، تشق الأجساد الراقدة على الأسرة، تقص، تقطع، تربط، تلتقط، تنقل قطعة من أحد الجسدين، تزرعها في الجسد الآخر .
دماء تنزف، أجهزة تنذر، همهمات قلقة، حركة متوترة، خطوات تسرع، أوامر هنا، وتعليملت هناك.
صمت يشبه الموت، عيون تراقب الأجهزة بنظرات حادة لا تحيد، الأجساد ما تزال مفتوحة، والآمال لا تزال معلقة.
تهدأ الأجهزة، تصدر صوتاً رتيبا، ترسم موجات منتظمة على الشاشة.
يعود الهدوء وتعود الأيادي ذات القفازات الملطخة تعمل في الأجساد المستسلمة لها والمتشبثة بالحياة.
الساعة 21:18
يبشّر كبير الجراحين: الحمد لله…
29 أيلول 2020
على سريرهما المشترك، تضع رأسها على كتفه، وفي ضوء الشموع، يقلبان ألبوم صور تجمع ذكريات تسع سنوات عاشاها معا، صور زواجهما الذي يوافق هذا اليوم، وصور التقطت لهما بعد خروجهما من غرفة العمليات. يستعيدان ذكريات ذلك اليوم، آمالهما، مخاوفهما، وتجربتهما مع التخدير الكلي، وظلال مما علق من تفاصيل تلك الرؤى التي شاهداها.
يضع يده على يدها، يشبك أصابعهما، يلمع خاتمها، تبتسم، يقول لها؛ أحبك.
استرد جسده عافيته، وعادت الدماء إلى وجهه، تخطى كل مضاعفات العملية، تقبّل جسده ما يسميه الأطباء بالعضو الغريب.
غدتْ أنحف، لكن أسعد، وكبدها المبتور أخذ ينمو، كما قال الطبيب.
14 شباط 2022
في غرفتها المظلمة، تدفن وجهها في وسادتها المبللة بالدموع، تتحسس الألم في قلبها.
في غرفة ليست بعيدة عن شقتهما، تحت أضواء خافتة يستلقى على سرير آخر، يده تشبك يدا أخرى، يلمع في إصبعها خاتم جديد، وفي عينيه أمل بأن ينجب طفلاً يحمل اسمه.