نداء الذكريات/ بقلم:عيشة صالح محمد

خمسة عشر عاما ومشوار أقل من ساعة يفصلني عن منبتي ومهد صباي، حارتنا العتيقة في الضاحية الشمالية من مدينة ‘الشيخ عثمان”، التي تبدأ بزقاق ضيق ثم تنفتح. على اليمين دكانة العم علي، يقف أمامها عدد من الدراجات الهوائية التي يقوم بتأجيرها وبداخلها قطع الخردة يستخدمها لترميم دراجاته، ولا يخلو محيط المحل من الصبية ذاهبون آيبون بالدراجات، وعلى الجانب الآخر دكانة “الشحاري” هكذا كانوا يسمونه، فيها كل ما يخطر على بال قاطني الحارة من الأرز والسكر إلى الإبرة حتى أقراص البندول متوفرة لديه.
كان يجذبني في صغري المقهى الذي يتوسط الحارة، وكان العم عبده صاحب المقهى ينصب كرسيه في مواجهة الشارع؛ حتى لا تفوته شاردة ولا واردة مما يحدث في الحارة، وصبيانه يباشرون طلبات المرتادين وغالبا هم من رجال وشباب الحارة وشيبانها، لم يكن مجرد مقهى فهو ملجأ لمن ليس له أحد وأنس لمن لا أنيس له، وملتقى رجال الحارة.
كثيرا ما كانت أمي ترسلني إلى مقهى العم عبده لمناداة أبي أو طلب شيء منه، فيصل إلى سمعي بعض من حكايات وأخبار من هنا وهناك، وكلام كثير غير مفهوم لي في السياسة والرياضة… وحينما يطلقون النكات لا أستوعب أنها نكتة إلا بعد أن تعلو ضحكاتهم.
كانت بيوت حارتنا متقاربة، وأرواحنا متقاربة، حتى عيشتنا متقاربة، في الصباح الباكر تجد روائح الخبز “الملوح” والفول منبعثة من شبابيك المطابخ الخشبية، وفي العصاري يحمل الهواء رائحة البخور إلى أنوف المارة قرب منازلها.
في أحد المنعطفات هناك شجرة “مريمرة’ ضخمة يتجمع تحتها الأطفال خاصة الفتيات. أنا وصديقاتي كنا نسميها شجرتنا، كنا نلعب تحتها القفز في المربعات المخططة على الأرض وكلما بهتت الخطوط أعدنا تخطيطها من جديد حتى أصبحت محفورة، أما الصبية فهم يصولون ويجولون في الحارة وعندما يتعبون من الجري يجلسون قرب الشجرة، ولا يطيلون البقاء فقد كنا نقوم برميهم بثمار المريمرة الصغيرة المتساقطة على الأرض، فهي شجرتنا.
لا أعلم لم تركنا حارتنا وبهذه الطريقة. كان حدثا فجائيا بالنسبة لي، لم أسمع عائلتي تتحدث عن ذلك من قبل، لم نودع أحدا حتى. كنت في العاشرة حين غادرتها مع عائلتي وخلفتها ورائي حاملة ذكريات وحنين وشوق لم تمحوه السنين. لم نبتعد كثيرا، استقر بنا الحال في منزل في مدينة “المعلا” التي تبعد عن الشيخ عثمان مسافة أقل من ساعة بالسيارة، ولا أعلم كذلك لم لا نزور أصدقاءنا وجيراننا الذين تركناهم في الحارة.
خمسة عشر عاما انقضت، كبرت فيها وأكملت دراستي وحصلت على وظيفة لم تكن طموحي ولكن لا بأس بها، وهكذا أخذتني الحياة في معتركها. توفي والداي وتزوج أخي في منزلنا، إذن لم أكن وحيدة في المنزل ولكني وحيدة من الداخل، وهذا الشعور ربما هو السبب في انجذابي نحو الذكريات، ففي الفترة الأخيرة راودتني كثيرا خيالات الطفولة وصور حارتنا التي أطلت من قعر الذاكرة إلى مقدمتها.
قررت أخيرا أن أذهب إلى هناك، إلى حارتنا، وألبي نداء الذكريات، الأمر لا يتطلب أكثر من استقلالي للحافلة المتجهة صوب الشيخ عثمان، وهذا ما فعلته، في الساعة الرابعة عصرا كنت أجلس على كرسي الحافلة وأسرح بخيالي وتساؤلاتي:
ترى من أول من سأقابله؟
كيف أصبح شكل منزلنا الذي بعناه؟
هل جيراني يشتاقون إلي؟
بدأت أصوات سلاسل الدراجات ترن في خيالي وضحكات الشيبان كأنها آتية من مكان عميق، وأحاول أن أتذكر كم مربعا كان مخطوطا تحت الشجرة الكبيرة، تتنقل ذاكرتي من صورة لأخرى، ها هو باب بيتنا الخشبي ذو المزلاج الحديدي الكبير يلوح أمام عيني، فابتسم ابتسامة خفيفة ثم أتلفت حولي لأتأكد أن لا أحد من راكبي الحافلة يلحظ شيئا على وجهي.
وصلت إلى آخر محطة في الشيخ عثمان، كانت شوارعها مزدحمة كعادتها، ستعرف أنك في الشيخ عثمان حتى ولو كنت مغمضا عينيك، من تداخل أصوات الباعة وأبواق السيارات واللكنات المختلفة المتخالفة التي تطرق سمعك. سرت قليلا ثم استقللت حافلة أخرى ذاهبة باتجاه حارتنا، وصلت أخيرا للمنعطف المؤدي إلى حارتنا، نزلت من الحافلة ومشيت بقلب يهفو لمرتع الذكريات، تلفت يمينا وشمالا وظننتني للحظات أني أخطأت الطريق، وكيف لي أن أخطئ؟ ولكن ما هذا المكان الذي لا شيء فيه من الذكريات…
أين العم علي ودراجاته؟ ودكانة الشحاري؟ تقدمت قليلا بالخطى حتى توسطت الحارة التي أصبحت صامتة باهتة، مكان المقهى أصبح مستودعا كبيرا لأكياس الأسمنت، هرعت إلى المنعطف حيث شجرة المريمرة ولم أجد الشجرة، لا بد أنهم قطعوها ليمتد حوش المنزل المجاور لها أمتارا إلى الأمام.
ذهبت باتجاه بيتنا القديم، وقفت أمامه بدا جديدا عما كان عليه بطلاء جدرانه الأزرق وشبابيك الألمنيوم الفضية وكذلك بابه، ربما كان أجمل ولكنه منفصل عن ذاكرتي. مشيت خطوات إلى يمينه حيث منزل جيراننا “بيت الصبيحي”، قرعت الباب ففتح وإذا بطفلة تقف أمامي، فتبادر إلى ذهني أنها ابنة خالد أو سناء فمن المحتمل أن يكونوا قد تزوجوا:
– من تريدين؟
تلعثمت قليلا ثم قلت:
– سناء، أو الخالة أم خالد.
– لا يوجد أحد بهذا الاسم.
ارتبكت ثم قلت لها:
– أليس هذا بيت العم الصبيحي؟
وفي هذه اللحظة جاءت امرأة من الداخل وقالت باستغراب:
– العم الصبيحي؟ يااه مر زمن على وفاته.
ثم أخبرتني أنهم مستأجرون لهذا المنزل، وأن الخالة أم خالد تقيم مع ابنها خالد في “السعودية”، أما سناء فقد تزوجت وانتقلت مع زوجها إلى “حضرموت”. دعتني للدخول ولكني لم أجد مبررا لأنزل ضيفة على من لا أعرفه، فشكرتها ومضيت.
ليتني لم أذهب، ليتني بقيت محتفظة بصورة حارتنا حية في مخيلتي، فهذه الزيارة كانت كسيل جرف معه الذكريات الجميلة؛ من يومها لم أعد أحلم بحارتنا.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!