لآفاق حرة
نَفُّوس.. و ضُرَّتها صافيناز
بقلم. نجم الدين سمّان
لم يستطع نجيب أفندي أن يُعلِّم زوجتَهُ نفيسَة الغِنَاء؛ ثمّ أنجبَت له بنتينِ على التوالي؛ فعَلّق أحدُ أصدقائه:
– تزوَّجَ عليها لأجل ولدٍ يحمِلُ اسمَك.
حتى كان عائداً ذاتَ ليلةٍ مِن سهرةٍ؛ فمَرَّ مِن زُقَاقٍ فسمِعَ صوتاً نسائياً يُغنِّي؛ توقّفَ.. يُنصِتُ إليه شجياً؛ بَعضُهُ بالعربية؛ وبَعضُهُ بالتركية العثمانية؛ فلمّا صَدَحَ أقربُ مُؤذّنٍ بآذان الفجر؛ توقّف الغناء؛ فلم ينَم تلك الليلة حين عاد إلى بيته؛ همَسَت له نفيسة:
– ضَلّ بالي عندك.. يا نجيب.
فأحسَّ بالذنب لأنه فكّرَ بصاحِبةِ ذاكَ الصوت.
بعد ثلاثةِ أيام.. صَارَحَها برغبته؛َ حكَت لي جدَّتي نَفُّوس كيف صَدَمَها جَدِّي بسؤاله؛ وصَدَمَها بتبريره:
– لأجل صوتِهَا فقط.. يا نَفُّوس.
ثم أردف قائلاً: – ولأجل ولدٍ.. يحمل اسمي.
كانت جدتي تعرِفُ تعلُّقَهُ بالموسيقى والغناء؛ لكنها تعرِفُ أكثر.. بأنها تُحِبُّهُ وتغَارُ عليه غِيرةً عَمياء؛ ومع هذا ابتلعت الصَدمَة. قالت: – بشرط أن أخطِبَهَا لك بنفسي.
دلَّهَا جدّي على دار غريمتها؛ علّقت:
– هذه دار صفوت أفندي يلماظ كاتب القائمقام.
وابتسمت.. لَم يَدرِ ما وراءَ ابتسامتها قبل أن تقول:
– معك حَق يا أفندي.. ما في أحلى من صوت صافيناز!.
رَنَّ اسمُهَا في أذنيه وما بينَ فَلقَتَي دِمَاغِه: – صافيناز.
ثمّ استفاقَ على تعليقِ زوجته: – لم يَبقَ لصفوت أفندي سوى هذه البنت؛ بعد موتِ ولديه في الحرب؛ لهذا بَقِيَ في إدلب عندما رحل العثمانيّون؛ واحتاجَهُ القائمقام العربيّ لِخِبرَتِهِ في الدواوين والمُراسلات؛ فأبقاهُ في وظيفته؛ غداً أزورهُم.. وأُمهِّدَ لطلبِ يدها.
رَحَّبت والدة صافيناز بالخُطبة؛ قائلةً لجَدَّتي:
– أحسِدِك على أخيكِ نجيب أفندي!.
لم يخطُر على بَالِهَا أن تخطِبَ زوجةُ لزوجها.
ابتلعت جَدَّتِي غَصَّتها:
– لكنه مُتزوج؛ ستكون صافيناز هي الثانية.
سألتها أم صافيناز:
– هل وافَقَت زوجته الأولى.. يعني مشاكِل يوك؟.
ردّت بصوتٍ.. لم يكُن صوتَهَا:
– زوجته الأولى مُوافقة؛ اطمَّنُوا.
ثم تابعت الاتفاق على الترتيبات:
– يقرأ نجيب أفندي الفاتحة مع والدها رفعت أفندي؛ ونكتب الكِتَاب فوراً؛ تعملون حفلةَ وداعٍ للعروس في منزلكم؛ لن يرى نجيب أفندي صافيناز حتى ليلة الدُخلة.
وافقت أمُّ العروس فوراً؛ فمضى كلُّ شيءٍ كما رتَّبَته جَدّتي لجَدّي؛ وكان يسألها بين كلِّ فترة: – كيف شفتيها ؟.
فتردّ: – ما في منها؛ عليها صوت.. يدَوِّب الحجر!.
حين جاءت جدَّتي بالعروس؛ كان جدِّي ينتظرها في “المربَّع الفوقاني” العِلِّيّة ذاتَها.. التي شَهِدَت ليلةَ زفافها.
فَتَحَت بابَ المُربّع لضُرَّتِها: – ليلة مُباركة.. يا عروس. ونزلت الدرَجَ بسُرعةٍ؛ لكنها تجمَّدت عندَ آخرِ دَرَجةٍ فيه؛ خارَت قِوَاها حين أغلقَ نجيبُهَا البابَ وراءَه؛ فجلسَت في الظلام لا تستطيع بُكاءً؛ كلُّ حَوَاسِّهَا مُعلّقةٌ بشقٍ صغيرٍ في بابِ العِلِّية.. ينبعثُ منه خيطٌ مِن الضوء.
وقتها كان جَدِّي قد كَشفَ الطَرحَةَ عن وَجهِ صافيناز؛ ثمّ أعادَها بهدوءٍ إلى مكانِهَا؛ مُتذكّراً جَوَابَ جدَّتِي: – أحلى ما فيها.. غناؤُها!؛ ومُبتلِعاً المقلَبَ الذي دَبَّرَتهُ نفيسة بِعِنايَة.
لم يكُن في صافيناز من جمال الاستانبوليّات شيءٌ؛ تأمّلها نحيلةً؛ شاحبةً؛ تكادُ تذوب في ارتباكها:
– اقعدي يا عروس.. ارتاحي.
بعد دقيقةٍ كأنّها الدهر كلّه.. سمعت جَدَّتي وهي في ظلامِ آخِرِ الدرجات؛ رَنَّاتِ دَوزَنَةِ نَجِيبِهَا لِعُودِه؛ فتنهَّدت مُتذكِرَةً ليلة دُخلَتِهَا؛ ثمّ انطلقَ صوتُ صافيناز.. مُرتَبِكاً في أولِ قرارٍ له؛ مُرتجِفاً على أولِ سُلّمَ العلامات؛ فما أن اجتازَ أولَ جَوَابٍ له.. حتى صَدَحَ بمَا اختزنَتهُ صافيناز في داخلها.. طوالَ عزوبيّتها؛ تُغنِّي لرجلٍ لن يَجِيء؛ فلطالما كان.. وما يزالُ صَوتُهَا نقيضَ وَجهِهَا على الإطلاق.
دخلت جَدَّتِي في نَشِيجٍ صامتٍ؛ بينما تسمعُ ضُرَّتها تصدح: أمان.. رَبِّي أمان. وزَوجَهَا يُردِّدُ وراءَهَا.. مُنتشياً: – الله.. الله.
حاولت أن تُغنِّي؛ أن تُقلِّدَ ضُرَّتها: – أمان.. رَبِّي أمان.
فلم تسمع صَوتَهَا المَبحُوح؛ اندفعَت إلى غُرفتِهَا بين ابنتيها ؛ لا يأتيها نَومٌ؛ الحفلةٌ تدورُ هناك في الأعلى؛ صوتُ ضُرَّتِهَا يَصدَحُ؛ حتى انبلجَ الضوءُ.. فسكتت صافينازُ عن الغِنَاءِ المُبَاح.
خلال شهر.. حَبِلَت الجَدّتان معاً: نفّوس وصافيناز؛ وبعد تسعة شهور.. انجبَت الجدّة التركية صافيناز بنتاً هي الثالثة في ذُريّةِ جَدّي؛ بينما أنجبَت جَدّتي الإدلبيّة نفُّوس “أُمُّ البنات” أول ذكرٍ.. لجَدّي؛ وتلكَ واحِدةٌ فقط.. مِن مُفارَقاتِ حياتِه.