أسماء وأسئلة:إعداد وتقديم: رضوان بن شيكار
تقف هذه السلسلة من الحوارات كل اسبوع مع مبدع اوفنان اوفاعل في احدى المجالات الحيوية في اسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد انتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.
ضيف حلقة الاسبوع المؤرخ الباحث علي الإدريسي
1. كيف تعرف نفسك للقراء في سطرين؟
أنا ابن الريف الأوسط من مواليد 1945، واجهتني قساوة الحياة، وواجهتها من جانبي بالتحدي وبالعلم، وعشت قساوتها كما عشت سعادة الانتصار والشعور بقيمة وجودي.
2. ماذا تقرأ الآن، وما هو أجمل كتاب قرأته؟
كنت أقرأ كتاب الدكتور عمر أشهبار عن مكانة التراث الثقافي والطبيعي في تنمية السياحة بإقليم الحسيمة، وقد أُعجِبت به فكتبت له تقديما؛ أما أجمل كتاب فيصعب تحديده، بحيث أن لكل فئة عمْرية رأيها في جمالية كتاب ما. وجمالية الكتاب بالنسبة إلي تتمثل في عمق تفكيره وأبعاده، وفي كل ما أضافه إلي من رؤية أو رؤى فتحت أو تفتح لي أفقا أو آفاقا معرفية جديدة لمعرفة نفسي وما حولي.
3. متى بدأت الكتابة، ولمن تكتب؟
إذا كنت تقصد الكتابة الأكاديمية فكانت في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، والكتابات غير الأكاديمية بدأت منذ أوائل السبعينيات عندما كنت مقيما في الجزائر. أما لمن أكتب؟ فكأنني بك تطرح سؤالا آخر هو: لماذا تتعلم؟ والجواب: لكي أعلَم ما لم أعلَم. وتأتي الكتابة لكي أقول للناس هذا ما أوصلني إليه العلم الذي تعلمته، وهذه نتيجته كما أدركتها؛ سواء وجدت القبول الإيجابي لديهم، أو المعارضة والنقد النافعين.
4. ما هي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟
أفهم أن سؤالك قد يشير إلى مدينة مغربية، إذا كان الأمر كذلك، فمدينة طنجة هي المدينة التي تجذبني إليها دوما، المدينة التي عشت فيها طفولة المراهقة ببؤسها وسعادتها. لكن حنينا أقوى لا يزال يجذبني إلى أخاديد ووهاد “جبل احمام” بالريف الأوسط، حيث كان مسقط رأسي وطفولتي الأولى الشقية؛ وهي أكثر إغراء لي من غيرها. وفي زمن سني المتقدم أشعر بحنين، بل بارتياح العيش في أكثر من مدينة غربية، وفي مقدمها مدينة “مونتريال Montréal” الكندية.
5.هل أنت راض على ما أنتجت، وما هي أعمالك المقبلة؟
كتبي هي بمثابة أولادي، والإنسان لا يعيب أولاده، لكنه قد لا يكون راضيا على بعض جوانب من تكوينهم أو على بعض مؤهلاتهم؛ وكذلك الأمر بالنسبة لكتب الكاتب أو المفكر. لماذا؟ لأن الكتابة تعبر عن قناعة مولَّدة من الزمن الذي عاش فيه، أو من رؤية فكرية استشرافية للمستقبل. وعلى هذا يمكن القول: إن القناعة تتولد عن إدراك الكاتب؛ ولإدراك ابن زمانه الاجتماعي والعلمي. لذلك يمكن القول: أفكار الناس على قدر مدارك زمانهم. والسؤال الذي يشغلني الآن هو: لماذا بقي الجيل السابق والجيل الحالي يصيح بدون جدوى، ولم يلتحق ولو قليلا بفكر محمد بن عبد الكريم الخطابي، على الرغم من مرور قرن كامل من الزمن على زرع أفكاره، ولا أقول قيادته للمقاومة المسلحة فقظ.
6. متى تحرق أوراقك وتعتزل الكتابة بشكل نهائي؟
إذا كانت أوراقي ذات قيمة معينة للحياة وللأجيال القادمة فإنها لن تحرق أبدا. والتاريخ قد سجل ويسجل أن أوراق المفكرين والعلماء الذين نفعوا الإنسانية هي حاضرة في الوجود وترشد الناس، أو تساعدهم على فهم الوقائع وأبعادها من أجل الانتفاع بها. أما اعتزال الكتابة نهائيا فلن يكون إلا يوم القيام بالخطوة الأخيرة في الحياة.
7. ما هو العمل الذي تمنيت أن تكون كاتبه، وهل لديك طقوس خاصة للكتابة؟
الكاتب لا يتمنى، وإنما يعمل دوما على تحقيق طموحه الذي خطط له في مشروع حياته، والمخطط يكون ناتجا عن حوافز ودوافع، كما يكون مدعّما بروح الصرامة ضد المعوقات الذاتية والموضوعية معا، وبإرادة التحدي للظروف وبشجاعة الحكيم في الوقت نفسه. أما طقوس الكتابة فهي أشبه بخميرة إعداد عجينة للحلوى، أو بمثابة لحظات الولادة عند النساء، حيث تكون معبأة بالألم النبيل.
8. هل للمؤرخ والمثقف دور فعلي في تطوير المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها، أم هو مجرد مغرّد خارد السرب؟
ساعد الرسل والأنبياء، على تقديم، الشعوب والقبائل من أجل تغيير واقعها وتطوير منظوماتها الاجتماعية الناشئة. والمسلمون اليوم يفخرون بتاريخ مثقفيهم والمفكرين المبدعين، والمبتكرين، والمكتشفين، الذين عكسوا مجتمعاتهم الإسلامية؛ كما أن أوروبا لا تزال تمجد مفكري اليونان. أما اليوم فنرى أن المثقفين والمفكرين، والعلماء، قد ساهموا في تغيير حياة مجتمعاتهم وتطويرها بالفكر، والفن، والتقنية، والعلم الحديث، والتكنولوجيا. كل ذلك كان بسبب التفاعل الإيجابي بين أهل الفكر والعلم وبين بيئتهم الاجتماعية، وساهموا بقوة في إيصال مجتمعاتهم إلى مرحلة المواطنة، ولا أقصد الجنسية. ولذلك لا يكون التغريد خارج السرب إلاّ في ظروف المجتمعات والدول المتخلفة أو الفاشلة، أو مجتمعات القوميات الغريزية.
9. هل يمكن للكاتب أو المفكر أن يعيش في عزلة، أو في حرية أقل، وهل العزلة قيد أم اختيار بالنسبة للكاتب؟
من المعروف أن كثيرا من المفكرين يفرضون على أنفسهم العزلة من أجل التفرغ للكتابةبدون أن يتعرضوا للتشويش على أفكارهم أو منهجهم، كما فعل ابن خلدون، مثلا، في كتابة “المقدمة” الشهير، وفعل غيره. أما إذا كنت تقصد العزلة المادية الإجبارية كالسجن والنفي، فقد قيل قديما: “السجن عبادة والنفي سياحة”؛ وأما ما أسميته “حرية أقل” فقد لا تكون كذلك، بل قد تكون جزأ من منهجيات الكاتب، بقصد التفكير المعمق والتركيز الفاعل، وهي عملية معروفة عند الكثير من الكتاب المعاصرين كذلك. وهذا طه حسين، مثلا، كان كثير الهروب من الأوضاع التي لا تساعده على الكتابة الجادة في وطنه. وقد قال: ” خير للأديب الحازم أن يفر… أن لم يسعفه الفرار إلى بلاد أخرى، فليهرب إلى أزمنة غابرة في التاريخ”. ولذا نشاهد اليوم كثيرا من مفكري مجتمعاتنا المتخلفة يهربون إلى أمكنة أو أزمنة أخرى قصد التعبير عن فكرهم وقناعاتهم وإبداعاتهم بحرية.
10.شخصية من الماضي ترغب لقاءها ولماذا ؟
مما لا شك فيه، أن الشخصيات المؤثرة في حياة الناس لا تكون في الماضي، وإنما في التاريخ، لأن الماضي قد مضى ولا يعود، فالذي يعود، إذن، هو التاريخ الذي يشكل جزأ منا في جوانب كثيرة من حياتنا الشعورية وغير الشعورية، ونستخلص منه الدروس والعبر والتوجيهات. ومن هنا فإن الشخصيات التاريخية لا نرغب نحن في لقائها، بقدر ما تفرض علينا هي حضورها وتميزها وتأثيرها الفاعل.
11. ماذا يبقى عندما نفقد الاشياء .الذكريات ام الفراغ؟
لكن، إذا كان التاريخ حاضرا فينا باستمرار فلماذا يتذكر البعض ذكريات ذات قيمة ويتذكر البعض الآخر الفراغ؟
يميز أهل الدراية والفكر البنَّاء بين عالم الأشياء وعالم الأفكار؛ فعالم الأشياء عالم مرتبط بالغرائز والرغبات، الذي لا ينجم عنه إلاّ الخواء أو الفراغ، أما عالم الأفكار فينتج عليه الوعي بضرورة التمرد على البالي الذي لم يعد صالحا، والقيام بالتجديد والتوجه نحو الأفضل. ولذا يكون لكل امرئ ما انخرط فيه وعمل في إطاره، فمن آمن بقيمة عمله وتحديث أو تجديد أفكاره كان له الاعتزاز والذكريات الجميلة عنده وعند الأجيال اللاحقة، ومن كان لا يرى إلاّ رغباته وغرائزه التي مارسها، فلن يبقى في ذاكرته إلاّ الخواء، ولا يسترجع إلاّ الفراغ.
12. لو أتيحت لك فرصة بدء حياتك من جديد، هل كنت ستختار مسارا آخر يختلف عن مسارك الحالي؟
أومن بأن حياة الإنسان بِنتُ زمانه، المتعدد المكونات، بما له وبما عليه؛ ومن ثمة لا يمكن أن يبدأ من جديد، وإنما يمكن التأثير في مراحل مسارها إذا ما تبدلت الظروف الاجتماعية ومستويات الإدراك وتطورها، وتغيرت القناعات السابقة. تقول الحكمة: “عقول الناس على قدر زمانهم”، وقد أضيف إليها: وقناعاتهم على قدر مداركهم.
13. هل يمكن أن تأتي صياغة الأفكار من فراغ، أم أنه لا بد من محركات مكانية وزمانية، حدثنا عن كتابك “عبد الكريم الخطابي التاريخ المحاصر”، وفي أي ظرف تم إنجازه؟
الفراغ لا يولّد إلاّ الخواء، و”الهدْرة” التي تعني الهدر؛ أما جمالية الأفكار وجودة الكتابة فيمكن تشبيهها بالإنتاج الذي بذل فيه صاحبه جهودا كثيرة؛ فمثلا بقدر ما تُهيء التربة الفلاحية، وصيانتها، واختيار أحسن للأسمدة النافعة لها، تعطيك إنتاجا جيدا، وكذلك الكتابات التي يحسن الناس استقبالها والإشادة بها، لأنها تترجم درجة التكوين العملي للكاتب، ولجهوده، ولتحديه للعراقيل والصعوبات المحيطة به. وفيما يتعلق بكتابي “التاريخ المحاصر” أعتقد جازما بأنه زيادة على أنه محاولة جادة وبرغماتية للتعامل مع أرضية “هيئة الإنصاف والمصالحة، المعلنة سنة 2004، في جانب من جوانبها، فقد توافرت لدي الأسباب لإخراجه إلى حيز الوجود، لأن الزمن التاريخي والسياسي والاجتماعي لم يتجمد وفق سياسة المخزن المغربي في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم يستطع النافذون واللوبيات المحلية والخارجية أن تعاند، ولو مرحليا، الرياح التي جاء بها القرن الواحد والعشرون. واليوم ولله الحمد هناك مجالات يمكن التعامل معها بشيء من الذكاء البرغماتي للنشر والتواصل مع الناس. لكن يحب الاعتراف بأن مشروع الكتاب كان مضمونه يتبلور لدي منذ ربع قرن وأكثر.
14. كيف تنظر إلى تجربة النشر على وسائل التواصل الاجتماعي؟
هذا ما ألمحت إليه، إلى حد ما، في نهاية الجواب على السؤال السابق، إن تكنولوجية التواصل الاجتماعي، في نظري، نافذة جديدة لمعرفة أحداث العالم وتطوراته والاستفادة منها، بعيدا عن التصور الواحد والرأي الوحيد، ووسيلة لتقديم مختلف الآراء وتفاعلها محليا ودوليا، وتلك هي روح العصر الراهن، والعولمة في بعض مجالاتها. ومن تخلف عن تكنولوجية التواصل الاجتماعي تخلف به زمانه وأمسى مجرد كائن مهمل.
15. ما هي أجمل، وكذلك أسوأ، ذكرى في حياتك؟
يصعب على جدا أن أميز ذكرى بعينها بأنها كانت الأجمل في حياتي، وإن كنت أتذكر فرحتي يوم تسلمت شهادة التسجيل في الجامعة، ويوم أصبحت أستاذا أساهم في تكوين أجيال أخرين. لكن الذكريات الجميلة كالذكريات السيئة تتقابلان وتتدافعان بقوة أحيانا، ومنهما تتولّد مسيرة الحياة.
16. وفي الختام، هل لديك كلمة أخيرة، أو شيء ترغب الحديث عنه؟
ليس من عادتي أن أقول للآخرين ما يجب فعله، وخاصة الشباب، ولكني لا أرفض الاستشارة أن استشارني أحد، لأن اختيارات أي شخص تتفاعل مع زمنه الثقافي والاجتماعي، تماهيا وتجاوبا مع القول المأثور: “لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم”، وكذلك مع مضمون المقولة التالية: ” أولادكم خلقوا لزمان غير زمانكم فلا تقصروهم على عاداتكم.”