1
كُلّمَا دخل عبدُ المجيدِ يُوسُفُ عليهَا
وجدَ في شُرفتِها غِلالا
يقُول لها أنَّى لكِ هذا؟!
تقُول هِبةُ البَحر:
الفصلُ فصلُ صَيفٍ
تَباشيرُ الخريفِ تَلوحُ
مِنْ تَخاريم الشّرفةِ.
2
يومًا بعدَ يومٍ
فِي بَاكر الصَّباح أو فِي العَشايَا
يَطوفُ عبدُ المَجيدِ على شُجيْراتِ الشُّرفة والزّهَراتِ
يَسقيهنَّ بالقِسط مِنَ الإبريق
واحدةً تِلوَ واحدةٍ
لليَاسَمين نصيبٌ
لشَقائق النّعمان والخُزامَى والقَرنفُل نصيبٌ
للأقحُوانِ للإكليل
ثُمّ يَنزلُ مِنَ الشّرفة يسقِي صَفّ السَّرول
سَيطُول السَّرولُ بعدَ سنينَ
ويُظلّل الشّرفةَ.
3
الشّرفةُ مَوعدُها
والبحرُ
لَثَمَاتُ المَوج على حفيفِ فُستانِها
صَافياتٌ ناعماتٌ
لمَساتُ رَمل السّاحل
كهَسْهسةِ النّسيم فِي النّخيل
حانَ قِطافُ العَراجين
مَدّتْ يديْها
فَإذا النّجومُ أقربُ.
4
مِنْ شُرفتها أطَلّتْ
بَينها وبينهُ
خطوتان فقطْ
هي الشّمسُ
لو تقدّمَ خطوةً واحدة
كان منها احترقْ
هُو البحرُ
لو تقدّمتْ خُطوةً واحدة
فِيهِ كان الغَرقْ
رآها رأتهُ
رأتهُ رآها
وثلاثُ… نُقطْ!
5
مِنْ شُرفتِها راحتْ تَنسابُ
مِثلَ الأنامل تَتَراوحُ عَلى النّاي
اِتّبعَتْ خُطاهُ
لَحِقَتْ بهِ
سارتْ أمامَهُ
وراءهُ سارتْ
على يَمينهِ سارتْ
سارتْ على يَسارهِ
تَحسَبُ أنّه لم يَشعُرْ بها
عجبًا
يُوسفُ يَبتعدُ عَنِ الشُّرفةِ
لمْ تَرَ ظِلَّهُ لمْ يُفارقْ ظلّها
معًا دائمًا أبدًا.
6
شُرفتُها
لوحةُ سَحابٍ وسِنفُونيّةُ أمواج
ومَدًى
بحرٌ وسماءٌ
شَمسٌ تجري لمُستَقرّ لهَا
ثِمارٌ… أزهارٌ
على كلّ شَكل ولونٍ وشَذًى
تَبارَكَ اللّهُ
أحسنُ الخالقين.
7
جَلستْ في شُرفتها ذاتَ يوم
رُبّما يُوسُف يَمُرُّ
رأتْ بَالُونةً زرقاءَ
هَبّتْ ريحٌ
طارتِ البالونةُ
مَسكَ الصَّبيُّ بالخيطِ
البالونةُ تعلُو… تعلُو
الصّبيُّ يجري… يجري
يَجري والبحرَ
اِنفرط الخيطُ مِنْ بَينِ أصابع الصَّبيّ
طارتِ الزّرقاءُ في الزُّرقةِ على الأزرق
رجعَ الصّبيُّ من حيثُ أتَى
جلسَ تحتَ شُرفتِها
وبَكى.
8
تحتَ شُرفتها ظلّ يُوسفُ يَنتظرُ
اليومَ أيضًا
ساعِي البريدِ لمْ يطرُقْ بابَها
لا جارٌ ولا جارةٌ
اليومَ أيضًا
الهاتفُ لم يَرِنْ
ولا حتَّى بالخَطإ.
9
مرّةً في شُرفتها جرَى الحديثُ
حدّثتهُ عنهُم جميعًا
الّذي
والّذي
الّذي وعدَ أخلفَ
الّذي سَافر لم يَعُدْ
والّذي تقدّم توقّفَ
حدّثتهُ عنهُم جميعًا
وهو أمامَها
يَذُوبُ صامتًا.
10
مَع فِنجانِها جلستْ في شُرفتِها
تَستعذبُ الوقتَ رَشفاتٍ
أينعَ الزّهرُ… اِعْشَوْشَبَ المَمْشَى
المُصطافُونَ غادرُوا
عادتْ إلى بطحاءِ القريةِ عَصا الشّيخ
وجَلَبَةُ الصِّبيان
اِنتصبتْ حَلَقاتُ المقهى تحتَ زيتُونةِ المَسجِدِ
المُصطافونَ غادرُوا
تَركُوا القريةَ في سُكونها
إلاّ مِنْ هَدير البَحرعَلى صُخور المِيناءِ
وصَخَبِ انتظار شُرفتِهَا.
11
يُوسُفُ غادرَ أيضًا
يَداهَا تُرفرفان إليهِ بالوَداع من شُرفتِها
سلامًا سلامًا
جبينُها وَضّاحٌ
ثغرُها باسِمُ
حالمُ
كأنّهُ وهوَ يبتعدُ
تراهُ عائدًا نَحوَ شُرفتِها
وقبل أن يُغادرَ اِزّيّنَتْ وهِيتَتْ لهُ
ثُمّ قالتْ متَى نلتقي؟
وأين؟
فأسرعَ بالجوابِ
ـ الآن وهنا
ورجعَ منَ البابِ.
12
كمْ يلزمُ مِن عَصر وكمْ لابُدَّ من مِصْرٍ
ومِنْ حِبرٍ ومِنْ سَطر
كيْ يصفَ أحلامَ شُرفتِهَا
وانثيالَ طيفِها
قَدُّهَا ألِفٌ
الباءُ بَسمتُها
الخاءَ خدُّها
بِالهَاءِ خَتمَ رَسْمَ أبجديّةِ البَهاءِ
فلاحَ فِي الآفاق قَوسُ قُزح.
13
أتمَّ ـ لِيُونَارْدُو ـ المُوناليزَا ـ
وبلمسَةٍ أخيرةٍ أكمَل اللّوحةَ
نظرَ فيها مَليّا
فأيقَنَ
أنَّهُ رسَمَ شُرفتَهَا…!
الشّاعر: سوف عبيد/ تونس
هِرقلة ـ رادس / صيف خريف 2014