العالَم فوق مِقعد حمَّام / بقلم : فتحي عبد السميع

 

 

 

 

{إلى حائطٍ في بيتِ جَدِّي أعرفُ نبْتَتَه جيدا}

 

 

 

تَدورُ الجُدْرَانُ حوْلي

ولا تَقتَربُ مِن لَحْمِي.

تَنبَحُ أحْيَانا

لكنَّهَا تَهُزُّ ذَيْلَهَا

وتَدفنُ رأْسَهَا بيْنَ ساعِدَيْهَا

الجُدْرَانُ جاهِزَةٌ على الدَّوَامِ

لِتَكونَ أليفةً

تُعَاني كالآدَمِيينَ تَمَامًا

مِن سوءِ الفَهْمِ وقَسوةِ النظرات.

 

رأيْتُ جِدارًا ذاتَ يومٍ

يَقْبَلُ شَرْخًا في عِظَامِه

لِيُعْرِبَ عن مَحبَّتِهِ للحياة.

رَأَى بِذرةً ضاقتْ عليها الدُّنيَا

فَمَنَحهَا شَقّا في جَسَدِه

وتَرَكهَا تُورِقُ كَمَا تَشَاء .

 

ثَمَّةَ بَرَاحٌ يَفصِلُني عن الجُدْرِان

بَرَاحٌ صغير

يَكفِي بالكَادِ لِمَقْعَدِ حَمَّامٍ

يَجلِسُ العالَمُ فوْقَه كلَّ ليلةٍ

لِيَحكِي بمرارةٍ  عن غُربَتِه

بَيِنَمَا يُمرِّرُ منديلا حوْلَ وَجْهِهِ وقَفَاه

لِيَمْسَحَ شَبُّورَةً مِن لُهَاثِ النَّاس.

 

تَنعسُ الجُدْرَانُ أحيانا

وتَعرِفُ الكوابيسَ

كثيرًا ما رَأتْ إنسانًا  بعيْنٍ واحدةٍ

يَنزِعُ جِلْدَهَا

كَمَا يُنزَعُ الِّليفُ مِنَ النَّخيل.

كثيرًا ما رَأتْ بَشَرا بأظافرَ مِن حديد

يَجدِلونَها حَبْلا

ويَخنقونَ أشقَّاءَهُم.

 

مذعورةً تقومُ الجُدْرَانُ مِن نُعَاسِهَا

تُراقِبُ المَخنوقينَ بِسَذاجَةٍ

وهُمْ يَتحرَّكونَ في حِجْرِهَا

فَتَستعِيذُ بالرَّحمَنِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيم.

تَشُكُّ أحيانا في نَوَايَا البَشَر

لكنَّها تَظَلُّ وَفِيَّةً لِمُعْتَقَداتِهَا

بِنْتُ الأرضِ أَنَا

أَنَا الرَّحِمُ البَدِيل

الآدَمِيُّ شَقِيقِي

وأَنَا المَلَاكُ الحارِس.

تُغنِّي الجُدْرِانُ كثيرًا

ويَسْمَعُهَا السُّجَنَاء.

 

حارِسُ السِّجْنِ سَجِينٌ مِثلِي

لكنَّني أكثرُ حَظّا

أَعرِفُ زِنْزَانَتِي، وأَعشَقُ الحُرِّيِّة

عَيْنَاي رقيقتانِ وَتَحُطُّ عليْهِمَا الطيور

عَيْنَاهُ غليظتانِ يَتقافَزُ مِنْهُمَا الدّود

أَمشِي في زِنْزَانةٍ

وحارِسُ السِّجْنِ يَمشِي في قبْرٍ

زِنْزَانتي دَمٌ فاسِدٌ يَسيلُ خارِجِي ويَضيع

وقَبْرُهُ دَمٌ فاسِدٌ يَسيلُ دَاخِلَهُ ويَبْقَى.

يَملِكُ الشوارعَ والميادين

لكِنَّ حَظَّهُ مِنْهَا أقلُّ مِن حَظِّي

يَحبِسُ العالَمَ في جيوبِه

ويَخطو في العَدَم.

 

لا بُدَّ مِن فِعْلِ شيءٍ

لِحَارِسِ الزِّنْزَانةِ المِسْكِين

لا بُدَّ مِن وَضْعِ شاهِدٍ خَلْفَ كَتِفَيْهِ

لا بُدَّ أولا مِن سَيَّارةٍ بمذياع

تَطوفُ بيْنَ النَّاس

وتَدعو الشوارعَ للسَّيْرِ في جنازتِه.

 

صَدِيقي الذي قَتَلوه

مَاطَلَ كثيرًا مِن أَجْلِ الفوْزِ بلحظةٍ إضافية

لَدَيَّ الكثيرُ مِن الدقائقِ

وأُحِبُّ استثمَارَهَا  في تربيةِ النّور

أَنتظِرُ دخولَ الطَّعَامِ

لأُمْسِكَ نورا يتسلَّلُ بيْنَ فُتَاتِه

أُوَفِّرُ مِن قوَّتِي

لأُطْعِمَ ما لا يُمْكِنُ سجنُه

أَنَا الرَّاعِي والنَّاي

أَنَا الجِدَارُ الذي يدور

حوْلَ قطيعٍ مِنَ النّور.

 

يَفتَحُ السَّجَّانُ

لِيَجِدَ نورا يَفِرُّ مِنِّي

ويَزْرُقُ في رُوحِه

يُعيدُ السَّيْفَ إلى جِرَابِه

ولا يُخبِرُ أَحَدًا

حتَّى لا يقلبوا عَيْنَيه

باحثِينَ عن سَجينٍ

يَفِرُّ شُعَاعا شُعَاعا

ويُمسِكُ الخَلَاء.

 

حارِسُ السِّجْنِ في الشارعِ

لكِنَّ رُوحي تَسري في دَمِه

بِذْرَتي  تُورِقُ في جِدَار

وقطيعٌ مِنَ الَّلحَظاتِ يَمرَحُ

في كلِّ لحظةٍ أَعيشُهَا

أَفعَلُ  كلَّ ما أَشْتَهِي

وأَنَا ألْعَبُ في زِنْزَانَتِي.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!