قال الطفل لأمه في مساء هادئ بعد المطر:
ـ أمي، من هو الله؟
ابتسمت الأم، وارتجف الضوء في عينيها،
كأنها تسمع السؤال للمرة الأولى منذ خلقت الأرض.
قالت بصوت يختلط فيه العجز:
هذا سؤال لا يزال الناس يسألونه
منذ بدأوا يشعلون النار،
ومنذ رسموا الشمس على جدران الكهوف.
في البدء، كان الإنسان وحيدا،
يخاف من العاصفة والرعد والليل الطويل،
وكان يسمع في الظلمة صوتا لا يرى،
فقال في قلبه:
لا بد أن هناك روحا تسكن الريح،
وقلبا كبيرا يحرك المطر.
في سومر، رفعوا رؤوسهم إلى السماء
وقالوا:
إنليل هو سيد الريح،
وإنانا تبكي في الفجر كي تنبت السنابل.
وفي مصر القديمة،
كان رع يبحر في مركبه كل صباح
ليوقظ النور،
وفي المساء يقاتل أپوفيس في أعماق الظلام
كي لا يموت الغد.
وفي الهند،
جلسوا تحت الشجر
وقالوا:
إن الآلهة تسكن في كل ورقة تهتز،
وأن الوجود كله نفس واحدة،
تتنفس فينا وتختبئ في الصمت.
وفي الصين،
كانوا يهمسون باسم لا يقال:
الطاو — الطريق الذي لا يسمى،
حيث الإله ليس شخصا،
بل سريان الماء في الحجر،
ونبض الكون في اللاشيء.
ثم جاءت القبائل إلى الصحراء،
يحملون جوعهم وعطشهم وأسئلتهم،
وقالوا:
ربنا في السماء،
يسمع ويرى،
ويهبنا المطر إذا دعوناه.
فأضاءت الكواكب لهم الطريق،
وسكنت في قلوبهم فكرة جديدة:
أن الله واحد،
لا يرى،
لكن يراك في خفقان قلبك.
وفي بلاد الإغريق،
الجبال ترتفع على البحر،
والآلهة تجلس فوق الأولمب،
وصوتها هو الرعد،
وعيناها تومضان كالبرق حين يغضب القدر.
رأوا في زيوس القوة،
وفي أفروديت جمال الحب،
وفي أثينا حكمة العقل.
لكن بعضهم،
حين تعب من الحرب،
قال:
إن الله أعمق من كل تلك الأسماء،
وأنه يسكن في الفكرة،
في الشعر،
في الإنسان.
وفي أرض العرب قبل الوحي،
نظروا إلى النجوم في الصحراء
وقالوا:
ثمة من يعرفها جميعا بالاسم.
عبدوا الأصنام لأنهم أرادوا وجها ملموسا للغيب،
لكن قلوبهم كانت تعرف أن وراء الحجر سرا أكبر.
وحين جاءهم الصوت من السماء،
قال لهم:
لا تعددوا،
فالواحد أقرب من نبضكم،
وأكبر من كل ما تصنعه الأيدي.
وفي المدن اللاتينية،
الأعمدة الرخامية تلمع تحت الشمس،
والفلاسفة يقولون:
إن الإله عقل أزلي،
ميزان بين الفوضى والنظام،
اسمه جوبتر،
سيد البرق.
لكن الشعراء يقولون:
ربما الله هو ما يجعلنا نغفر،
ونحلم رغم أننا نعرف النهاية.
وفي جبال الأنديز العالية،
قال الإنكا:
إن الشمس أم الأرض،
ودفؤها رحم الحياة.
سموها إنتي،
وجعلوا القمر أبا رؤوفا.
وحين ذاب الثلج،
قالوا:
تلك دموع الإله على أبنائه الذين نسوا الله.
وفي أراضي المايا والأزتك،
الحجر يروي قصصا منقوشة بالنار،
وآمنوا بأن الإله يسكن في القلب،
وأن الدم صلاة،
والحياة تمنح مقابل حياة.
كانوا يرون أن الشمس تحتاج إلى قوتها من أرواح البشر،
فقدّموا لها ما ظنوه طاعة،
وكان الله،
ربما،
يبكي في صمت عميق.
وفي إفريقيا،
حين كانت الأشجار تتكلم بلغات الريح،
قالت القبائل:
إن الإله هو الغابة نفسها،
في الرعد،
في المطر،
في الرقص حول النار.
قالوا:
حين نضحك مع الأرض،
يضحك معنا الله،
وحين نغني،
تزهر الحقول بصلواتنا.
وفي آسيا البعيدة،
الحكماء يجلسون على ضفاف الأنهار،
ويقولون:
إن الله هو الطريق الذي لا يرى،
السكينة التي تهمس في القلب.
هو الدارما عند الهنود،
والطاو عند الصينيين،
والفراغ المضيء عند البوذيين.
قالوا:
إنك إن أغلقت عينيك وسمعت أنفاسك،
رأيت السكينة في داخلك بلا اسم ولا شكل.
وكان الطفل يصغي،
كأن كل الأزمنة حوله دائرة،
الأصوات القديمة تخرج من أفواه الصخور،
ومن أغاني الحقول،
ومن أنين الأمهات على مر العصور،
ورفع وجهه نحو الغيوم،
كأنها حروف بيضاء.
في قلبه أراد أن يقرأ منها اسما لا يكتب.
قال بصوت خافت كالنور في العيون:
ـ أمي،
هل الله يشبهني؟
قالت:
ربما…
يشبهك حين تضحك من غير سبب،
وحين تبكي لأن النملة سقطت في الماء،
وحين تمد يدك لتلمس القمر ولا تخاف من البعد.
ثم أضافت وهي تنظر إلى الأفق:
الله ليس في السماء فقط،
إنه في السؤال نفسه،
في الدهشة التي تجعلك تسأل،
وفي الصمت الذي لا يجد جوابا.
إنه في قلب كل من بحث عنه صادقا،
في سومر،
وفي الأولمب،
وفي رمل الصحراء،
وفي معابد الأزتك،
وفي رقص إفريقيا،
وفي تأمل آسيا،
وفي نظرة طفل نحو الحياة.
وبينما مالت الشمس إلى الغروب،
كانت الأسئلة تبحث عن جواب،
ولا يزال الإنسان يسأل،
ولا تزال الحكاية مستمرة.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية