مرثية القطار/بقلم:علي جاسم ياسين

 أربعة وأربعون عاما من الصدأ والحنين
مضت أربعة وأربعون عاما،
وما زال صوت القطار في الذاكرة،
كأنّ الحديد لم يهدأ بعد،
وكأنّ قلبي ما زال على سكّة المعقل
ينتظر نداء الصباح.
من هناك بدأ كل شيء…
من محطة المعقل،
حيث الضوء ينساب على وجوه العمال،
وحيث يرتفع نداء القطار كأنين الحديد،
يدعو الجميع إلى نهارٍ من الشقاء.
ينطلق القطار،
كأنه يجرّ الصحراء خلفه،
يمرّ على البيوت،
وعلى صمت النساء في النوافذ،
ثم يختفي شيئا فشيئا في البيداء.
وفي الشعيبة يقف قليلا،
ينتظرنا هناك ناظر المحطة محمد خورشيد،
الهنديّ الأصل، بوجهه الأنيق،
يقف في ظله كتمثالٍ من انضباطٍ ووقار.
يلوح للقطار،
فيجيبه الحديد بأنينٍ طويلٍ كتحيةٍ قديمة.
كان له ابن… سلام.
شابٌّ رقيقٌ في قيظ البصرة،
صديقي، ورفيق أحلامي الصغيرة،
مات ذات يومٍ بلا خبرٍ ولا تفسير،
غاب كما يغيب ظلّ الغيم في صحراء الطوبة.
ومنذ ذلك اليوم،
كلما هدر القطار في البعد،
أسمع صوته في الريح —
ضحكته المقطوعة، ووداعه الذي لم يكتمل.
يواصل القطار رحلته نحو الطوبة،
حيث نُنزَل كأحجارٍ صغيرةٍ في فلاةٍ من الرمل.
نحو خمسة عشر فتىً لم تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة،
يحملون مطارقهم وأحلامهم
ويبدّلون الخشب تحت السكك.
كان معنا صالح چيچان،
شيخٌ يكبرنا فوق عمرنا بخمسين عاما،
يمشي بيننا بهدوء المعلمين القدامى،
عيناه تلمعان من تعبٍ قديمٍ،
وكان يقول لنا:
“لا تخافوا من الصحراء،
ما دام القطار يعرف طريق العودة.”
كل صباح،
كانت العربات تمتلئ النساء البسيطات،
يحملن سلالا من الخضروات،
وأكياس السكر والرز،
وأطفالهن الذين يضحكون رغم القيظ.
كنت أراقبهم،
أتعاطف معهم،
أمدّ لهم يدي أحيانا،
وأمازح الصغار في طريقهم نحو المدينة.
القطار نفسه
كتلة من الحديد الصدئ،
كراسيه أغلفتها قديمة،
أصواته تشبه أنين كبار السن.
لكنه كان لنا بيتا مؤقتا،
من حديدٍ وأملٍ وغبار.
وفي نهاية النهار،
حين يعيدنا القطار إلى المعقل،
كنا نغفو على ارتجاجه كأننا نعود إلى حضنٍ قديم.
كنت أفكر في أبي الشاب،
وفي أمي التي كانت تضحك رغم التعب،
وفي إخوتي الصغار الذين كانوا ينتظرونني كعيدٍ صغير.
الآن…
بعد أربعةٍ وأربعين عاما،
أجلس على سكة الذاكرة،
وأسمع القطار يمرّ من جديد.
صوته يختلط بصدى صالح چيچان،
وبضحكة سلامٍ التي لم تكتمل،
وبأغنيةٍ بعيدةٍ لأمي في بيتٍ غابر.
ما زلت هناك…
في الطوبة،
بين الرمل والحديد،
أبدّل الأخشاب القديمة،
وأنتظر قطارا لا يعود.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!